فصل: فصل‏:‏ الموالاة في الوضوء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


باب فرض الطهارة

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وفرض الطهارة ماء طاهر وإزالة الحدث أراد بالطاهر‏:‏ الطهور وقد ذكرنا فيما مضى أن الطهارة لا تصح إلا بالماء الطهور وعنى بإزالة الحدث الاستنجاء بالماء أو بالأحجار‏,‏ وينبغي أن يتقيد ذلك بحالة وجود الحدث كما تقيد اشتراط الطهارة بحالة وجوده وسمي هذين فرضين لأنهما من شرائط الوضوء وشرائط الشيء واجبة له‏,‏ والواجب هو الفرض وفي إحدى الروايتين وظاهر كلام الخرقي اشتراط الاستنجاء لصحة الوضوء فلو توضأ قبل الاستنجاء لم يصح كالتيمم والرواية الثانية‏:‏ يصح الوضوء قبل الاستنجاء ويستجمر بعد ذلك بالأحجار‏,‏ أو يغسل فرجه بحائل بينه وبين يديه ولا يمس الفرج وهذه الرواية أصح وهي مذهب الشافعي لأنها إزالة نجاسة فلم تشترط لصحة الطهارة‏,‏ كما لو كانت على غير الفرج فأما التيمم قبل الاستجمار فقال القاضي‏:‏ لا يصح وجها واحدا لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما أبيح للصلاة‏,‏ ومن عليه نجاسة يمكنه إزالتها لا تباح له الصلاة فلم تصح نية الاستباحة كالتيمم قبل الوقت وقال القاضي‏:‏ فيه وجه آخر أنه يصح لأن التيمم طهارة فأشبهت طهارة الوضوء‏,‏ والمنع من الإباحة لمانع آخر لا يقدح في صحة التيمم كما لو تيمم في موضع نهي عن الصلاة فيه أو تيمم من على ثوبه نجاسة أو على بدنه في غير الفرج وقال ابن عقيل لو كانت النجاسة على غير الفرج من بدنه فهو كما لو كانت على الفرج لما ذكرنا من العلة والأشبه التفريق بينهما‏,‏ كما لو افترقا في طهارة الماء ولأن نجاسة الفرج سبب وجوب التيمم فجاز أن يكون بقاؤها مانعا منه بخلاف سائر النجاسات‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ والنية للطهارة يعني نية الطهارة والنية‏:‏ القصد‏,‏ يقال‏:‏ نواك‏:‏ الله بخير أي قصدك به ونويت السفر أي‏:‏ قصدته وعزمت عليه والنية من شرائط الطهارة للأحداث كلها لا يصح وضوء ولا غسل ولا تيمم‏,‏ إلا بها روي ذلك عن علي وبه قال ربيعة ومالك والشافعي والليث وإسحاق وأبو عبيدة وابن المنذر وقال الثوري وأصحاب الرأي‏:‏ لا تشترط النية في طهارة الماء وإنما تشترط في التيمم لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ الآية‏,‏ ذكر الشرائط ولم يذكر النية ولو كانت شرطا لذكرها ولأن مقتضى الأمر حصول الإجزاء بفعل المأمور به‏,‏ فتقضي الآية حصول الإجزاء بما تضمنته ولأنها طهارة بالماء فلم تفتقر إلى النية كغسل النجاسة ولنا‏:‏ ما روى عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏,‏ وإنما لكل امرئ ما نوى‏)‏ متفق عليه فنفى أن يكون له عمل شرعي بدون النية ولأنها طهارة عن حدث فلم تصح بغير نية‏,‏ والآية حجة لنا فإن قوله‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ أي‏:‏ للصلاة كما يقال‏:‏ إذا لقيت الأمير فترجل أي‏:‏ له وإذا رأيت الأسد فاحذر أي‏:‏ منه وقولهم‏:‏ ذكر كل الشرائط قلنا‏:‏ إنما ذكر أركان الوضوء‏,‏ وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- شرطه كآية التيمم وقولهم‏:‏ مقتضى الأمر حصول الإجزاء قلنا‏:‏ بل مقتضاه وجوب الفعل وهو واجب فاشترط لصحته شرط آخر بدليل التيمم وقولهم‏:‏ إنها طهارة قلنا‏:‏ إلا أنها عبادة‏,‏ والعبادة لا تكون إلا منوية لأنها قربة إلى الله تعالى وطاعة له وامتثال لأمره‏,‏ ولا يحصل ذلك بغير نية‏.‏

فصل‏:‏

ومحل النية القلب إذ هي عبارة عن القصد ومحل القصد القلب فمتى اعتقد بقلبه أجزأه‏,‏ وإن لم يلفظ بلسانه وإن لم تخطر النية بقلبه لم يجزه ولو سبق لسانه إلى غير ما اعتقده لم يمنع ذلك صحة ما اعتقده بقلبه‏.‏

فصل‏:‏

وصفتها أن يقصد بطهارته استباحة شيء لا يستباح إلا بها كالصلاة والطواف ومس المصحف وينوي رفع الحدث‏,‏ ومعناه إزالة المانع من كل فعل يفتقر إلى الطهارة وهذا قول من وافقنا على اشتراط النية لا نعلم بينهم فيه اختلافا فإن نوى بالطهارة ما لا تشرع له الطهارة كالتبرد والأكل والبيع والنكاح ونحوه ولم ينو الطهارة الشرعية‏,‏ لم يرتفع حدثه لأنه لم ينو الطهارة ولا ما يتضمن نيتها فلم يحصل له شيء‏,‏ كالذي لم يقصد شيئا وإن نوى تجديد الطهارة فتبين أنه كان محدثا فهل تصح طهارته‏؟‏ على روايتين‏:‏ إحداهما تصح لأنه طهارة شرعية‏,‏ فينبغي أن يحصل له ما نواه وللخبر وقياسا على ما لو نوى رفع الحدث والثانية لا تصح طهارته لأنه لم ينو رفع الحدث ولا ما تضمنه‏,‏ أشبه ما لو نوى التبرد وإن نوى ما تشرع له الطهارة ولا تشترط كقراءة القرآن والأذان والنوم فهل يرتفع حدثه‏؟‏ على وجهين‏:‏ أصلهما‏,‏ إذا نوى تجديد الوضوء وهو محدث والأولى صحة طهارته لأنه نوى شيئا من ضرورة صحة الطهارة وهو الفضيلة الحاصلة لمن فعل ذلك وهو على طهارة‏,‏ فصحت طهارته كما لو نوى بها ما لا يباح إلا بها ولأنه نوى طهارة شرعية فصحت للخبر فإن قيل‏:‏ يبطل هذا بما لو نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة قلنا‏:‏ إن نوى طهارة شرعية‏,‏ مثل إن قصد أن يأكل وهو متطهر طهارة شرعية أو قصد أن لا يزال على وضوء فهو كمسألتنا‏,‏ وتصح طهارته وإن قصد بذلك نظافة أعضائه من وسخ أو طين أو غيره لم تصح طهارته لأنه لم يقصدها وإن نوى وضوءا مطلقا أو طهارة‏,‏ ففيه وجهان‏:‏ أصحهما صحته لأن الوضوء والطهارة إنما ينصرف إطلاقهما إلى المشروع فيكون ناويا لوضوء شرعي والوجه الثاني‏:‏ لا تصح طهارته في هذه المواضع كلها لأنه قصد ما يباح بدون الطهارة أشبه قاصد الأكل‏,‏ والطهارة تنقسم إلى ما هو مشروع وإلى غيره فلم تصح مع التردد وإن نوى بطهارته رفع الحدث وتبريد أعضائه صحت طهارته لأن التبريد يحصل بدون النية‏,‏ فلم يؤثر هذا الاشتراك كما لو قصد بالصلاة الطاعة والخلاص من خصمه وإن قصد الجنب بالغسل اللبث في المسجد ارتفع حدثه لأنه شرط لذلك‏.‏

فصل‏:‏

ويجب تقديم النية على الطهارة كلها لأنها شرط لها فيعتبر وجودها في جميعها‏,‏ فإن وجد شيء من واجبات الطهارة قبل النية لم يعتد به ويستحب أن ينوي قبل غسل كفيه لتشمل النية مسنون الطهارة ومفروضها فإن غسل كفيه قبل النية كان كمن لم يغسلهما ويجوز تقديم النية على الطهارة بالزمن اليسير كقولنا في الصلاة‏,‏ وإن طال الفصل لم يجزه ذلك ويستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر طهارته لتكون أفعاله مقترنة بالنية فإن استصحب حكمها أجزأه ومعناه‏:‏ أن لا ينوي قطعها وإن عزبت عن خاطره وذهل عنها‏,‏ لم يؤثر ذلك في قطعها لأن ما اشترطت له النية لا يبطل بعزوبها والذهول عنها كالصلاة والصيام وإن قطع نيته في أثنائها مثل أن ينوي أن لا يتم طهارته‏,‏ أو إن نوى جعل الغسل لغير الطهارة لم يبطل ما مضى من طهارته لأنه وقع صحيحا فلم يبطل بقطع النية بعده‏,‏ كما لو نوى قطع النية بعد الفراغ من الوضوء وما أتى به من الغسل بعد قطع النية لم يعتد به لأنه وجد بغير شرطه فإن أعاد غسله بنية قبل طول الفصل صحت طهارته لوجود أفعال الطهارة كلها منوية متوالية وإن طال الفصل‏,‏ انبنى ذلك على وجوب الموالاة في الوضوء فإن قلنا‏:‏ هي واجبة بطلت طهارته لفواتها وإن قلنا‏:‏ هي غير واجبة أتمها‏.‏

فصل‏:‏

وإن شك في النية في أثناء الطهارة لزمه استئنافها لأنها عبادة شك في شرطها وهو فيها‏,‏ فلم تصح كالصلاة إلا أن النية إنما هي القصد ولا يعتبر مقارنتها‏,‏ فمهما علم أنه جاء ليتوضأ وأراد فعل الوضوء مقارنا له أو سابقا عليه قريبا منه فقد وجدت النية وإن شك في وجود ذلك في أثناء الطهارة لم يصح ما فعله منها وهكذا إن شك في غسل عضو أو مسح رأسه‏,‏ كان حكمه حكم من لم يأت به لأن الأصل عدمه إلا أن يكون ذلك وهما كالوسواس فلا يلتفت إليه وإن شك في شيء من ذلك بعد فراغه من الطهارة لم يلتفت إلى شكه لأنه شك في العبادة بعد فراغه منها‏,‏ أشبه الشك في شرط الصلاة ويحتمل أن تبطل الطهارة لأن حكمها باق بدليل بطلانها بمبطلاتها‏,‏ بخلاف الصلاة والأول أصح لأنها كانت محكوما بصحتها قبل شكه فلا يزول ذلك بالشك كما لو شك في وجود الحدث المبطل‏.‏

فصل‏:‏

وإذا وضأه غيره اعتبرت النية من المتوضئ دون الموضئ لأن المتوضئ هو المخاطب بالوضوء‏,‏ والوضوء يحصل له بخلاف الموضئ فإنه آلة لا يخاطب به ولا يحصل له فأشبه الإناء أو حامل الماء إليه‏.‏

فصل‏:‏

وإذا توضأ وصلى الظهر‏,‏ ثم أحدث وتوضأ وصلى العصر ثم علم أنه ترك مسح رأسه أو واجبا في الطهارة في أحد الوضوءين‏,‏ لزمه إعادة الوضوء والصلاتين معا لأنه تيقن بطلان أحد الصلاتين لا بعينها وكذا لو ترك واجبا في وضوء إحدى الصلوات الخمس ولم يعلم عينه لزمه إعادة الوضوء والصلوات الخمس لأنه يعلم أن عليه صلاة من خمس لا يعلم عينها فلزمته‏,‏ كما لو نسي صلاة في يوم لا يعلم عينها وإن كان الوضوء تجديدا لا عن حدث وقلنا إن التجديد لا يرفع الحدث‏,‏ فكذلك لأن وجوده كعدمه وإن قلنا‏:‏ يرفع الحدث لم يلزمه إلا الأولى لأن الطهارة الأولى إن كانت صحيحة فصلاته كلها صحيحة لأنها باقية لم تبطل بالتجديد وإن كانت غير صحيحة فقد ارتفع الحدث بالتجديد‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وغسل الوجه‏,‏ وهو من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن وإلى أصول الأذنين ويتعاهد المفصل وهو ما بين اللحية والأذن غسل الوجه واجب بالنص والإجماع‏,‏ وقوله‏:‏ من منابت شعر الرأس أي في غالب الناس ولا يعتبر كل واحد بنفسه‏,‏ بل لو كان أجلح ينحسر شعره عن مقدم رأسه غسل إلى حد منابت الشعر في الغالب والأفرع الذي ينزل شعره إلى الوجه‏,‏ يجب عليه غسل الشعر الذي ينزل عن حد الغالب وذهب الزهري إلى أن الأذنين من الوجه يغسلان معه لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره‏)‏ أضاف السمع إليه كما أضاف البصر وقال مالك ما بين اللحية والأذن ليس من الوجه ولا يجب غسله لأن الوجه ما تحصل به المواجهة وهذا لا يواجه به قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك هذا ولنا على الزهري قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏الأذنان من الرأس‏)‏ وفي حديث ابن عباس والربيع‏,‏ والمقدام ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح أذنيه مع رأسه‏)‏ وقد ذكرناهما ولم يحك أحد أنه غسلهما مع الوجه وإنما أضافهما إلى الوجه لمجاورتهما له والشيء يسمى باسم ما جاوره ولنا على مالك أن هذا من الوجه في حق من لا لحية له‏,‏ فكان منه في حق من له لحية كسائر الوجه وقوله‏:‏ إن الوجه ما يحصل به المواجهة قلنا‏:‏ وهذا يحصل به المواجهة في الغلام ويستحب تعاهد هذا الموضع بالغسل لأنه مما يغفل الناس عنه قال المروذي‏:‏ أراني أبو عبد الله ما بين أذنه وصدغه وقال‏:‏ هذا موضع ينبغي أن يتعاهد وهذا الموضع مفصل اللحي من الوجه‏,‏ فلذلك سماه الخرقي مفصلا‏.‏

فصل‏:‏

ويدخل في الوجه العذار وهو الشعر الذي على العظم الناتئ الذي هو سمت صماخ الأذن وما انحط عنه إلى وتد الأذن والعارض‏:‏ وهو ما نزل عن حد العذار‏,‏ وهو الشعر الذي على اللحيين قال الأصمعي والمفضل بن سلمة‏:‏ ما جاوز وتد الأذن عارض والذقن‏:‏ مجمع اللحيين فهذه الشعور الثلاثة من الوجه يجب غسلها معه وكذلك الشعور الأربعة وهي الحاجبان وأهداب العينين‏,‏ والعنفقة والشارب فأما الصدغ وهو الشعر الذي بعد انتهاء العذار‏,‏ وهو ما يحاذي رأس الأذن وينزل عن رأسها قليلا والنزعتان وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدا في جانبي الرأس‏,‏ فهما من الرأس وذكر بعض أصحابنا في الصدغ وجها آخر أنه من الوجه لأنه متصل بالعذار أشبه العارض‏,‏ وليس بصحيح فإن الربيع بنت معوذ قالت‏:‏ ‏(‏رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ فمسح رأسه ومسح ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه‏,‏ مرة واحدة‏)‏ فمسحه مع الرأس ولم ينقل أنه غسله مع الوجه ولأنه شعر متصل بشعر الرأس لا يختص الكبير فكان من الرأس‏,‏ كسائر نواحيه وما ذكره من القياس طردي لا معنى تحته وليس هو أولى من قياسنا فأما التحذيف‏,‏ وهو الشعر الداخل في الوجه ما بين انتهاء العذار والنزعة فهو من الوجه ذكره ابن حامد ويحتمل أنه من الرأس لأنه شعر متصل به والأول أصح لأن محله لو لم يكن عليه شعر لكان من الوجه‏,‏ فكذلك إذا كان عليه شعر كسائر الوجه‏.‏

فصل‏:‏

وهذه الشعور كلها إن كانت كثيفة لا تصف البشرة أجزأه غسل ظاهرها وإن كانت تصف البشرة‏,‏ وجب غسلها معه وإن كان بعضها كثيفا وبعضها خفيفا وجب غسل بشرة الخفيف معه وظاهر الكثيف أومأ إليه أحمد -رحمه الله- تعالى ومن أصحابنا من ذكر في الشارب والعنفقة‏,‏ والحاجبين وأهداب العينين ولحية المرأة‏,‏ وجها آخر في وجوب غسل باطنها وإن كانت كثيفة لأنها لا تستر ما تحتها عادة وإن وجد ذلك كان نادرا‏,‏ فلا يتعلق به حكم وهذا مذهب الشافعي ولنا أنه شعر ساتر لما تحته أشبه لحية الرجل ودعوى الندرة في الحاجبين والشارب والعنفقة‏,‏ غير مسلم بل العادة ذلك‏.‏

فصل‏:‏

ومتى غسل هذه الشعور ثم زالت عنه‏,‏ أو انقلعت جلدة من يديه أو قص ظفره أو انقلع لم يؤثر في طهارته قال يونس بن عبيد ما زاده ذلك إلا طهارة وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن ابن جرير أن ظهور بشرة الوجه بعد غسل شعره يوجب غسلها‏,‏ قياسا على ظهور قدم الماسح على الخف ولا يصح لأن الفرض انتقل إلى الشعر أصلا بدليل أنه لو غسل البشرة دون الشعر‏,‏ لم يجزه بخلاف الخفين فإنهما بدل يجزئ غسل الرجلين دونهما‏.‏

فصل‏:‏

ويجب غسل ما استرسل من اللحية وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه‏:‏ لا يجب غسل ما نزل منها عن حد الوجه طولا وعرضا لأنه شعر خارج عن محل الفرض فأشبه ما نزل من شعر الرأس عنه وروي عن أبي حنيفة أنه لا يجب غسل اللحية الكثيفة لأن الله تعالى إنما أمر بغسل الوجه‏,‏ وهو اسم للبشرة التي تحصل بها المواجهة والشعر ليس ببشرة وما تحته لا تحصل به المواجهة وقد قال الخلال الذي ثبت عن أبي عبد الله في اللحية أنه لا يغسلها وليست من الوجه ألبتة قال‏:‏ وروى بكر بن محمد‏,‏ عن أبيه قال‏:‏ سألت أبا عبد الله أيما أعجب إليك غسل اللحية أو التخليل‏؟‏ فقال‏:‏ غسلها ليس من السنة وإن لم يخلل أجزأه وهذا ظاهر مثل مذهب أبي حنيفة في الرواية التي ذكرت عنه ويحتمل أنه أراد ما خرج عن حد الوجه منها‏,‏ وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي والمشهور عن أبي حنيفة أن عليه غسل الربع من اللحية بناء على أصله في مسح الرأس وظاهر مذهب أحمد الذي عليه أصحابه‏,‏ وجوب غسل اللحية كلها مما هو نابت في محل الفرض سواء حاذى محل الفرض أو تجاوزه وهو ظاهر كلام الشافعي وقول أحمد في نفي الغسل‏,‏ أراد به غسل باطنها أي غسل باطنها ليس من السنة وقد روي ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا قد غطى لحيته في الصلاة‏,‏ فقال‏:‏ اكشف وجهك فإن اللحية من الوجه‏)‏ ولأنه نابت في محل الفرض يدخل في اسمه ظاهرا فأشبه اليد الزائدة ولأنه يواجه به فيدخل في اسم الوجه‏,‏ ويفارق شعر الرأس فإن النازل عنه لا يدخل في اسمه والخف لا يجب مسح جميعه‏,‏ بخلاف ما نحن فيه‏.‏

فصل‏:‏

يستحب أن يزيد في ماء الوجه لأن فيه غضونا وشعورا ودواخل وخوارج ليصل الماء إلى جميعه وقد روى علي‏,‏ رضي الله عنه ‏(‏في صفة وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ثم أدخل يديه في الإناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بهما على وجهه ثم الثانية‏,‏ ثم الثالثة مثل ذلك ثم أخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فتركها تستن على وجهه‏)‏ رواه أبو داود‏.‏ وقوله‏:‏ ‏[‏ تستن‏]‏ أي‏:‏ تسيل وتنصب قال أحمد -رحمه الله-‏:‏ يؤخذ للوجه أكثر مما يؤخذ لعضو من الأعضاء وقال محمد بن الحكم‏:‏ كره أبو عبد الله أن يأخذ الماء ثم يصبه‏,‏ ثم يغسل وجهه وقال‏:‏ هذا مسح ولكنه يغسل غسلا وروى أبو داود عن أنس ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه‏,‏ وقال‏:‏ هكذا أمرني ربي عز وجل‏)‏‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ والفم والأنف من الوجه يعني أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين جميعا‏:‏ الغسل والوضوء فإن غسل الوجه واجب فيهما هذا المشهور في المذهب وبه قال ابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق وحكي عن عطاء وروي عن أحمد رواية أخرى في الاستنشاق وحده أنه واجب قال القاضي‏:‏ الاستنشاق واجب في الطهارتين‏,‏ رواية واحدة وبه قال أبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من توضأ فليستنثر‏)‏ وفي رواية قال‏:‏ ‏(‏إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر‏)‏ متفق عليه ولمسلم‏:‏ ‏(‏من توضأ فليستنشق‏)‏ وعن ابن عباس مرفوعا ‏(‏استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا‏)‏ وهذا أمر يقتضي الوجوب ولأن الأنف لا يزال مفتوحا‏,‏ وليس له غطاء يستره بخلاف الفم وقال غير القاضي عن أحمد رواية أخرى‏:‏ إن المضمضة والاستنشاق واجبان في الكبرى‏,‏ مسنونان في الصغرى وهذا مذهب الثوري وأصحاب الرأي لأن الكبرى يجب فيها غسل كل ما أمكن من البدن كبواطن الشعور الكثيفة ولا يمسح فيها عن الحوائل فوجبا فيها‏,‏ بخلاف الصغرى وقال مالك والشافعي لا يجبان في الطهارتين وإنما هما مسنونان فيهما وروي ذلك عن الحسن والحكم وحماد وقتادة وربيعة ويحيى الأنصاري والليث والأوزاعي لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏عشر من الفطرة‏)‏ وذكر منها المضمضة والاستنشاق والفطرة‏:‏ السنة‏,‏ وذكره لهما من الفطرة يدل على مخالفتهما لسائر الوضوء ولأن الفم والأنف عضوان باطنان فلا يجب غسلهما كباطن اللحية وداخل العينين ولأن الوجه ما تحصل به المواجهة ولا تحصل المواجهة بهما ولنا ما روت عائشة‏,‏ رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه‏)‏ رواه أبو بكر في الشافي بإسناده عن ابن المبارك عن ابن جريج عن عروة‏,‏ عن عائشة وأخرجه الدارقطني في سننه ولأن كل من وصف وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستقصيا ذكر أنه تمضمض واستنشق‏,‏ ومداومته عليهما تدل على وجوبهما لأن فعله يصلح أن يكون بيانا وتفصيلا للوضوء المأمور به في كتاب الله وكونهما من الفطرة لا ينفي وجوبهما لاشتمال الفطرة على الواجب والمندوب‏,‏ ولذلك ذكر فيها الختان وهو واجب‏.‏

فصل‏:‏

والمضمضة‏:‏ إدارة الماء في الفم والاستنشاق‏:‏ اجتذاب الماء بالنفس إلى باطن الأنف والاستنثار‏:‏ إخراج الماء من أنفه ولكن يعبر بالاستنثار عن الاستنشاق لكونه من لوازمه ولا يجب إدارة الماء في جميع الفم ولا إيصال الماء إلى جميع باطن الأنف‏,‏ وإنما ذلك مبالغة مستحبة في حق غير الصائم وقد ذكرناه في سنن الطهارة وإذا أدار الماء في فيه فهو مخير بين مجه وبلعه لأن المقصود قد حصل به فإن جعله في فيه ينوي رفع الحدث الأصغر‏,‏ ثم ذكر أنه جنب فنوى رفع الحدثين ارتفعا جميعا لأن الماء لا يثبت له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال‏,‏ ولو كان الماء قد لبث في فيه حتى تحلل من ريقه ماء يغيره لم يمنع لأن التغير في محل الإزالة لا يمنع أشبه ما لو تغير الماء على عضوه بعجين عليه‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمناه ثم يستنثر بيسراه لما روي عن عثمان‏,‏ رضي الله عنه أنه ‏(‏توضأ فدعا بماء فغسل يديه ثلاثا ثم غرف بيمينه‏,‏ ثم رفعها إلى فيه فمضمض واستنشق بكف واحدة واستنثر بيسراه‏,‏ وفعل ذلك ثلاثا - ثم ذكر سائر الوضوء - ثم قال‏:‏ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ لنا كما توضأت لكم فمن كان سائلا عن وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا وضوءه‏)‏ رواه سعيد بن منصور بإسناده وعن علي‏,‏ رضي الله عنه ‏(‏أنه أدخل يده اليمنى في الإناء فملأ كفه فتمضمض واستنشق‏,‏ ونثر بيده اليسرى ففعل ذلك ثلاثا ثم قال‏:‏ هذا وضوء نبي الله -صلى الله عليه وسلم-‏)‏ رواه أبو بكر في الشافي‏,‏ والنسائي ويستحب أن يتمضمض ويستنشق من كف واحدة يجمع بينهما قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد الله يسأل‏:‏ أيما أعجب إليك المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة أو كل واحدة منها على حدة‏؟‏ قال‏:‏ بغرفة واحدة وذلك لما ذكرنا من حديث عثمان وعلي‏,‏ رضي الله عنهما وفي حديث عبد الله بن زيد ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدخل يديه في التور فتمضمض واستنثر ثلاث مرات يمضمض ويستنثر من غرفة واحدة‏)‏ رواه سعيد وفي لفظ‏:‏ ‏(‏تمضمض واستنثر ثلاثا ثلاثا من غرفة واحدة‏)‏ رواه البخاري وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فتمضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثا‏)‏ متفق عليه وفي لفظ ‏(‏أنه مضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات‏)‏ متفق عليه وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحدة‏)‏ رواه الأثرم‏,‏ وابن ماجه فإن شاء المتوضئ تمضمض واستنشق من ثلاث غرفات وإن شاء فعل ذلك ثلاثا بغرفة واحدة لما ذكرنا من الأحاديث وإن أفرد المضمضة بثلاث غرفات والاستنشاق بثلاث‏,‏ جاز لأنه قد روي في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق‏)‏ رواه أبو داود ولأن الكيفية في الغسل غير واجبة‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجب الترتيب بينهما وبين غسل بقية الوجه لأنهما من أجزائه ولكن المستحب أن يبدأ بهما قبل الوجه لأن كل من وصف وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر أنه بدأ بهما إلا شيئا نادرا وهل يجب الترتيب والموالاة بينهما وبين سائر الأعضاء غير الوجه‏؟‏ على روايتين‏:‏ إحداهما تجب وهو ظاهر كلام الخرقي لأنهما من الوجه‏,‏ فوجب غسلهما قبل غسل اليدين للآية وقياسا على سائر أجزائه والثانية‏:‏ لا تجب بل لو تركهما في وضوئه وصلى تمضمض واستنشق وأعاد الصلاة ولم يعد الوضوء لما روى المقدام بن معدي كرب ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بوضوء‏,‏ فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا‏,‏ ثم تمضمض واستنشق‏)‏ رواه أبو داود ولأن وجوبهما بغير القرآن وإنما وجب الترتيب بين الأعضاء المذكورة لأن في الآية ما يدل على إرادة الترتيب ولم يوجد ذلك فيهما قيل لأحمد فنسي المضمضة وحدها‏؟‏ قال‏:‏ الاستنشاق عندي آكد وذلك لصحة الأخبار الواردة فيه بخصوصه قال أصحابنا‏:‏ وهل يسميان فرضا مع وجوبهما‏؟‏ على روايتين وهذا ينبني على اختلاف الروايتين في الواجب‏,‏ هل يسمى فرضا أو لا‏؟‏ والصحيح‏:‏ أنه يسمى فرضا فيسميان ها هنا فرضا والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وغسل اليدين إلى المرفقين ويدخل المرفقين في الغسل لا خلاف بين علماء الأمة في وجوب غسل اليدين في الطهارة‏,‏ وقد نص الله تعالى عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏ وأكثر العلماء على أنه يجب إدخال المرفقين في الغسل منهم عطاء ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وقال بعض أصحاب مالك وابن داود‏:‏ لا يجب وحكي ذلك عن زفر لأن الله تعالى أمر بالغسل إليهما‏,‏ وجعلهما غايته بحرف إلى وهو لانتهاء الغاية فلا يدخل المذكور بعده‏,‏ كقوله تعالى ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ولنا ما روى جابر قال‏:‏ ‏(‏كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ أدار الماء إلى مرفقيه‏)‏ وهذا بيان للغسل المأمور به في الآية فإن ‏"‏ إلى ‏"‏ تستعمل بمعنى مع‏,‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويزدكم قوة إلى قوتكم‏}‏ أي مع قوتكم ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ و ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏ فكان فعله مبينا وقولهم‏:‏ إن ‏"‏ إلى ‏"‏ للغاية قلنا‏:‏ وقد تكون بمعنى مع قال المبرد‏:‏ إذا كان الحد من جنس المحدود دخل فيه كقولهم‏:‏ بعت هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف‏.‏

فصل‏:‏

وإن خلق له إصبع زائدة‏,‏ أو يد زائدة في محل الفرض وجب غسلها مع الأصلية لأنها نابتة فيه أشبهت الثؤلول‏,‏ وإن كانت نابتة في غير محل الفرض كالعضد أو المنكب لم يجب غسلها سواء كانت قصيرة أو طويلة لأنها في غير محل الفرض‏,‏ فأشبهت شعر الرأس إذا نزل عن الوجه وهذا قول ابن حامد وابن عقيل وقال القاضي‏:‏ إن كان بعضها يحاذي محل الفرض غسل ما يحاذيه منها والأول أصح واختلف أصحاب الرأي في ذلك كنحو مما ذكرنا وإن لم يعلم الأصلية منهما وجب غسلهما جميعا لأن غسل إحداهما واجب‏,‏ ولا يخرج عن عهدة الواجب يقينا إلا بغسلهما فوجب غسلهما كما لو تنجست إحدى يديه ولم يعلم عينها‏.‏

فصل‏:‏

وإن انقلعت جلدة من غير محل الفرض‏,‏ حتى تدلت من محل الفرض وجب غسلها لأن أصلها في محل الفرض فأشبهت الإصبع الزائدة‏,‏ وإن تقلعت من محل الفرض حتى صارت متدلية من غير محل الفرض لم يجب غسلها قصيرة كانت أو طويلة بلا خلاف لأنها في غير محل الفرض وإن تعلقت من أحد المحلين فالتحم رأسها في الآخر‏,‏ وبقي وسطها متجافيا صارت كالنابتة في المحلين يجب غسل ما حاذى محل الفرض منها من ظاهرها وباطنها‏,‏ وغسل ما تحتها من محل الفرض‏.‏

فصل‏:‏

وإن قطعت يده من دون المرفق غسل ما بقي من محل الفرض وإن قطعت من المرفق غسل العظم الذي هو طرف العضد لأن غسل العظمين المتلاقيين من الذراع والعضد واجب فإذا زال أحدهما غسل الآخر وإن كان من فوق المرفقين سقط الغسل لعدم محله فإن كان أقطع اليدين فوجد من يوضئه متبرعا لزمه ذلك لأنه قادر عليه وإن لم يجد من يوضئه إلا بأجر يقدر عليه‏,‏ لزمه أيضا كما يلزمه شراء الماء وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يلزمه كما لو عجز عن القيام في الصلاة لم يلزمه استئجار من يقيمه ويعتمد عليه وإن عجز عن الأجر أو لم يقدر على من يستأجره‏,‏ صلى على حسب حاله كعادم الماء والتراب وإن وجد من ييممه ولم يجد من يوضئه‏,‏ لزمه التيمم كعادم الماء إذا وجد التراب وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا‏.‏

فصل‏:‏

إذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته فقال ابن عقيل لا تصح طهارته حتى يزيله لأنه محل من اليد استتر بما ليس من خلقة الأصل سترا منع إيصال الماء إليه‏,‏ مع إمكان إيصاله وعدم الضرر به فأشبه ما لو كان عليه شمع أو غيره ويحتمل أن لا يلزمه ذلك لأن هذا يستر عادة فلو كان غسله واجبا لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه‏,‏ وقد عاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم كونهم يدخلون عليه قلحا ورفع أحدهم بين أنملته وظفره يعني أن وسخ أرفاغهم تحت أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها فعاب عليهم نتن ريحها‏,‏ لا بطلان طهارتهم ولو كان مبطلا للطهارة كان ذلك أهم من نتن الريح فكان أحق بالبيان ولأن هذا يستتر عادة‏,‏ أشبه ما يستره الشعر من الوجه‏.‏

فصل‏:‏

ومن كان يتوضأ من ماء يسير يغترف منه بيده فغرف منه عند غسل يديه لم يؤثر ذلك في الماء وقال بعض أصحاب الشافعي‏:‏ يصير الماء مستعملا بغرفه منه لأنه موضع غسل اليد‏,‏ وهو ناو للوضوء بغسلها فأشبه ما لو غمسها في الماء ينوي غسلها فيه ولنا أن في حديث عبد الله بن زيد ‏(‏في صفة وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه دعا بماء فذكر وضوءه - إلى أن قال - وغسل وجهه ثلاثا‏,‏ ثم أدخل يده فاستخرجها وغسل يديه إلى المرفقين مرتين‏)‏ وفي حديث عثمان‏:‏ ‏(‏ثم غرف بيده اليمنى فصب على ذراعه اليمنى فغسلها إلى المرفقين ثلاثا ثم غرف بيمينه فغسل يده اليسرى‏)‏ رواهما سعيد وحديث عبد الله بن زيد رواه مسلم‏,‏ وغيره وكل من حكى وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحك أنه تحرز من اغتراف الماء بيده في موضع غسلها ولو كان هذا يفسد الماء كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحق بمعرفته‏,‏ ولوجب عليه بيانه لمسيس الحاجة إليه إذ كان هذا لا يعرف بدون البيان ولا يتوقاه إلا متحذلق‏,‏ وما ذكره لا يصح لأن المغترف لم يقصد بغمس يده إلا الاغتراف دون غسلها فأشبه من يغوص في البئر لترقية الدلو وعليه جنابة لا يقصد غير ترقيته ونية الاغتراف عارضت نية الطهارة فصرفتها والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ومسح الرأس لا خلاف في وجوب مسح الرأس‏,‏ وقد نص الله تعالى عليه بقوله ‏{‏فامسحوا برءوسكم‏}‏ واختلف في قدر الواجب فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب مالك وروي عن أحمد يجزئ مسح بعضه قال أبو الحارث قلت لأحمد فإن مسح برأسه وترك بعضه‏؟‏ قال‏:‏ يجزئه ثم قال‏:‏ ومن يمكنه أن يأتي على الرأس كله وقد نقل عن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه‏,‏ وابن عمر مسح اليافوخ وممن قال بمسح البعض الحسن والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن الظاهر عن أحمد -رحمه الله- في حق الرجل‏,‏ وجوب الاستيعاب وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها قال الخلال العمل في مذهب أحمد أبي عبد الله أنها إن مسحت مقدم رأسها أجزأها وقال مهنا‏:‏ قال أحمد‏:‏ أرجو أن تكون المرأة في مسح الرأس أسهل قلت له‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ كانت عائشة تمسح مقدم رأسها واحتج من أجاز مسح البعض بأن المغيرة بن شعبة روى ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح بناصيته وعمامته‏)‏ ‏(‏وإن عثمان مسح مقدم رأسه بيده مرة واحدة ولم يستأنف له ماء جديدا‏,‏ حين حكى وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم-‏)‏ رواه سعيد ولأن من مسح بعض رأسه يقال‏:‏ مسح برأسه كما يقال‏:‏ مسح برأس اليتيم وقبل رأسه وزعم بعض من ينصر ذلك أن الباء للتبعيض فكأنه قال‏:‏ وامسحوا بعض رءوسكم‏,‏ ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برءوسكم‏}‏ والباء للإلصاق فكأنه قال‏:‏ وامسحوا رءوسكم فيتناول الجميع كما قال في التيمم‏:‏ ‏{‏فامسحوا بوجوهكم‏}‏ وقولهم‏:‏ ‏"‏ الباء للتبعيض ‏"‏ غير صحيح ولا يعرف أهل العربية ذلك‏,‏ قال ابن برهان‏:‏ من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه وحديث المغيرة يدل على جواز المسح على العمامة ونحن نقول به ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما توضأ مسح رأسه كله وهذا يصلح أن يكون مبينا للمسح المأمور به‏,‏ وما ذكروه من اللفظ مجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بدليل‏.‏

فصل‏:‏

وإذا قلنا بجواز مسح البعض فمن أي موضع مسح أجزأه لأن الجميع رأس إلا أنه لا يجزئ مسح الأذنين عن الرأس لأنهما تبع‏,‏ فلا يجتزئ بهما عن الأصل والظاهر عن أبي عبد الله أنه لا يجب مسحهما وإن وجب الاستيعاب لأن الرأس عند إطلاق لفظه إنما يتناول ما عليه الشعر واختلف أصحابنا في قدر البعض المجزئ‏,‏ فقال القاضي‏:‏ قدر الناصية لحديث المغيرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح ناصيته وحكى أبو الخطاب وبعض أصحاب الشافعي عن أحمد‏:‏ أنه لا يجزئ إلا مسح أكثره لأن الأكثر ينطلق عليه اسم الشيء الكامل وقال أبو حنيفة يجزئ مسح ربعه وقال الشافعي يجزئ مسح ما يقع عليه الاسم‏,‏ وأقله ثلاث شعرات وحكي عنه‏:‏ لو مسح ثلاث شعرات وحكي عنه‏:‏ لو مسح شعرة أجزأه‏,‏ لوقوع الاسم عليها ووجه ما قاله القاضي‏:‏ إن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلح بيانا لما أمر به فيحمل عليه‏.‏

فصل‏:‏

والمستحب في مسح الرأس أن يبل يديه ثم يضع طرف إحدى سبابتيه على طرف الأخرى ويضعهما على مقدم رأسه ويضع الإبهامين على الصدغين‏,‏ ثم يمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه كما روى عبد الله بن زيد ‏(‏في وصف وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ فمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر‏,‏ بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه‏)‏ متفق عليه وكذلك وصف المقدام بن معدي كرب رواه أبو داود فإن كان ذا شعر يخاف أن ينتفش برد يديه لم يردهما نص عليه أحمد فإنه قيل له‏:‏ من له شعر إلى منكبيه‏,‏ كيف يمسح في الوضوء‏؟‏ فأقبل أحمد بيديه على رأسه مرة وقال‏:‏ هكذا كراهية أن ينتشر شعره يعني أنه يمسح إلى قفاه ولا يرد يديه قال أحمد حديث على هكذا وإن شاء مسح كما روي عن الربيع ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ عندها‏,‏ فمسح رأسه كله من فرق الشعر كل ناحية لمصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته‏)‏ رواه أبو داود وسئل أحمد كيف تمسح المرأة‏؟‏ فقال‏:‏ هكذا ووضع يده على وسط رأسه ثم جرها إلى مقدمه ثم رفعها فوضعها حيث منه بدأ‏,‏ ثم جرها إلى مؤخره وكيف مسح بعد استيعاب قدر الواجب أجزأه‏.‏

فصل‏:‏

ولا يسن تكرار مسح الرأس في الصحيح من المذهب وهو قول أبي حنيفة ومالك وروي ذلك عن ابن عمر وابنه سالم والنخعي ومجاهد وطلحة بن مصرف والحكم قال الترمذي‏:‏ والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم وعن أحمد أنه يسن تكراره ويحتمله كلام الخرقي لقوله الثلاث أفضل وهو مذهب الشافعي وروي عن أنس قال ابن عبد البر‏:‏ كلهم يقول‏:‏ مسح الرأس مسحة واحدة وقال الشافعي‏:‏ يمسح برأسه ثلاثا لأن أبا داود روى عن شقيق بن سلمة قال‏:‏ ‏(‏رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثا‏,‏ ومسح برأسه ثلاثا ثم قال‏:‏ رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل مثل هذا‏)‏ وروي مثل ذلك عن غير واحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وروى عثمان وعلي وابن عمر‏,‏ وأبو هريرة وعبد الله بن أبي أوفى وأبو مالك‏,‏ والربيع وأبي بن كعب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏توضأ ثلاثا ثلاثا‏)‏ وفي حديث أبي‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي‏)‏ رواه ابن ماجه ولأن الرأس أصل في الطهارة فسن تكرارها فيه كالوجه ولنا ‏(‏أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ومسح برأسه مرة واحدة‏)‏ متفق عليه وروي عن ‏(‏علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح برأسه مرة واحدة وقال‏:‏ هذا وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحب أن ينظر إلى طهور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلينظر إلى هذا‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح ‏(‏وكذلك وصف عبد الله بن أبي أوفى وابن عباس‏,‏ وسلمة بن الأكوع والربيع كلهم‏,‏ قالوا‏:‏ ومسح برأسه مرة واحدة‏)‏ وحكايتهم لوضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- إخبار عن الدوام ولا يداوم إلا على الأفضل الأكمل وحديث ابن عباس حكاية وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليل حال خلوته‏,‏ ولا يفعل في تلك الحال إلا الأفضل ولأنه مسح في طهارة فلم يسن تكراره كالمسح في التيمم‏,‏ والمسح على الجبيرة وسائر المسح ولم يصح من أحاديثهم شيء صريح قال أبو داود‏:‏ أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ثلاثا‏,‏ وقالوا فيها‏:‏ ومسح برأسه ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره والحديث الذي ذكر فيه‏:‏ مسح رأسه ثلاثا رواه يحيى بن آدم‏,‏ وخالفه وكيع فقال‏:‏ توضأ ثلاثا فقط والصحيح عن عثمان أنه ‏(‏توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح رأسه ولم يذكر عددا‏)‏ هكذا رواه البخاري ومسلم قال أبو داود‏:‏ وهو الصحيح ومن روى عنه ذلك سوى عثمان‏,‏ فلم يصح فإنهم الذين رووا أحاديثنا وهي صحاح فيلزم من ذلك ضعف ما خالفها‏,‏ والأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا أرادوا بها ما سوى المسح فإن رواتها حين فصلوا قالوا‏:‏ ومسح برأسه مرة واحدة والتفصيل يحكم به على الإجمال ويكون تفسيرا له ولا يعارض به‏,‏ كالخاص مع العام وقياسهم منقوض بالتيمم فإن قيل يجوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مسح مرة ليبين الجواز ومسح ثلاثا ثلاثا ليبين الأفضل‏,‏ كما فعل في الغسل فنقل الأمران نقلا صحيحا من غير تعارض بين الروايات قلنا‏:‏ قول الراوي‏:‏ هذا طهور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدل على أنه طهوره على الدوام ولأن الصحابة رضي الله عنهم‏,‏ إنما ذكروا صفة وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتعريف سائلهم ومن حضرهم كيفية وضوئه في دوامه فلو شاهدوا وضوءه على صفة أخرى لم يطلقوا هذا الإطلاق الذي يفهم منه أنهم لم يشاهدوا غيره لأن ذلك يكون تدليسا وإيهاما بغير الصواب فلا يظن ذلك بهم‏,‏ وتعين حمل حال الراوي لغير الصحيح على الغلط لا غير ولأن الرواة إذا رووا حديثا واحدا عن شخص واحد فاتفق الحفاظ منهم على صفة وخالفهم فيها واحد‏,‏ حكموا عليه بالغلط وإن كان ثقة حافظا فكيف إذا لم يكن معروفا بذلك‏,‏

فصل‏:‏

إذا وصل الماء إلى بشرة الرأس ولم يمسح على الشعر لم يجزئه لأن الفرض انتقل إليه‏,‏ فلم يجز مسح غيره كما لو أوصل الماء إلى باطن اللحية ولم يغسل ظاهرها وإن نزل شعره عن منابت شعر الرأس فمسح على النازل من منابته‏,‏ لم يجزئه لأن الرأس ما ترأس وعلا ولو رد هذا النازل وعقده على رأسه لم يجزئه المسح عليه لأنه ليس من الرأس وإنما هو نازل رده إلى أعلاه ولو نزل عن منبته ولم ينزل عن محل الفرض فمسح عليه أجزأه لأنه شعر على محل الفرض‏,‏ فأشبه القائم على محله ولأن هذا لا بد منه لكل ذي شعر ولو خضب رأسه بما يستره أو طينه لم يجزئه المسح على الخضاب والطين نص عليه في الخضاب لأنه لم يمسح على محل الفرض‏,‏ فأشبه ما لو ترك على رأسه خرقة فمسح عليها والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

ويمسح رأسه بماء جديد غير ما فضل عن ذراعيه وهو قول أبي حنيفة والشافعي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم قاله الترمذي وجوزه الحسن وعروة والأوزاعي لما ذكرنا من حديث عثمان ويتخرج لنا مثل ذلك إذا قلنا‏:‏ إن المستعمل لا يخرج عن طهوريته سيما الغسلة الثانية والثالثة ولنا‏:‏ ما روى عبد الله بن زيد‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏مسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه بماء غير فضل يديه‏)‏ وكذلك حكى علي ومعاوية رواهن أبو داود قال الترمذي‏:‏ وقد روي من غير وجه ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ لرأسه ماء جديدا‏)‏ ولأن البلل الباقي في يده مستعمل فلا يجزئ المسح به‏,‏ كما لو فصله في إناء ثم استعمله‏.‏

فصل‏:‏

فإن غسل رأسه بدل مسحه فعلى وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ لا يجزئه لأن الله تعالى أمر بالمسح والنبي -صلى الله عليه وسلم- مسح وأمر بالمسح ولأنه أحد نوعي الطهارة‏,‏ فلم يجزئ عن النوع الآخر كالمسح عن الغسل والثاني يجزئ لأنه لو كان جنبا فانغمس في ماء ينوي الطهارتين أجزأه مع عدم المسح‏,‏ فكذلك إذا كان الحدث الأصغر منفردا ولأن في صفة غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه غسل وجهه ويديه ثم أفرغ على رأسه ولم يذكر مسحا ولأن الغسل أبلغ من المسح فإذا أتى به ينبغي أن يجزئه‏,‏ كما لو اغتسل ينوي به الوضوء وهذا فيما إذا لم يمر يده على رأسه فأما إن أمر يده على رأسه مع الغسل أو بعده أجزأه لأنه قد أتى بالمسح وقد روي عن ‏(‏معاوية أنه توضأ للناس كما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ‏,‏ فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر ثم مسح من مقدمه إلى مؤخره‏,‏ ومن مؤخره إلى مقدمه‏)‏ رواه أبو داود ولو حصل على رأسه ماء المطر أو صب عليه إنسان ثم مسح عليه يقصد بذلك الطهارة‏,‏ أو كان قد صمد للمطر أجزأه وإن حصل الماء على رأسه من غير قصد أجزأه أيضا لأن حصول الماء على رأسه بغير قصد لم يؤثر في الماء فمتى وضع يده على ذلك البلل ومسح به فقد مسح بماء غير مستعمل‏,‏ فصحت طهارته كما لو حصل بقصده فإن لم يمسح بيده وقلنا إن الغسل يقوم مقام المسح‏,‏ نظرنا فإن قصد حصول الماء على رأسه أجزأه إذا جرى الماء عليه وإلا لم يجزئه وإن قلنا لم يجزئ الغسل عن المسح لم يجزئه بحال‏.‏

فصل‏:‏

وإن مسح رأسه بخرقة مبلولة‏,‏ أو خشبة أجزأه في أحد الوجهين لأن الله تعالى أمر بالمسح وقد فعله‏,‏ فأجزأه كما لو مسح بيده أو بيد غيره ولأن مسحه بيده غير مشترط بدليل ما لو مسحه بيد غيره والثاني لا يجزئه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح بيده وإن وضع على رأسه خرقة مبلولة فابتل بها رأسه‏,‏ أو وضع خرقة ثم بلها حتى ابتل شعره لم يجزئه لأن ذلك ليس بمسح ولا غسل ويحتمل أن يجزئه لأنه بل شعره قاصدا للوضوء فأجزأه‏,‏ كما لو غسله وإن مسح بإصبع أو إصبعين أجزأه إذا مسح بهما ما يجب مسحه كله ونقل محمد بن الحكم عن أحمد أنه لا يجزئه قال القاضي‏:‏ هذا محمول على وجوب الاستيعاب فإنه لا يمكنه استيعاب الرأس بإصبعه‏,‏ فأما إن استوعبه أجزأه لأنه مسح ببعض يده أشبه مسحه بكفه‏.‏

فصل‏:‏

والأذنان من الرأس فقياس المذهب وجوب مسحهما مع مسحه وقال الخلال كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا‏,‏ أنه يجزئه وذلك لأنهما تبع للرأس لا يفهم من إطلاق اسم الرأس دخولهما فيه ولا يشبهان بقية أجزاء الرأس‏,‏ ولذلك لم يجزه مسحهما عن مسحه عند من اجتزأ بمسح بعضه والأولى مسحهما معه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسحهما مع رأسه فروت ‏(‏الربيع‏,‏ أنها رأت النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة‏)‏ وروى ابن عباس ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما‏)‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث ابن عباس وحديث الربيع صحيحان وروى المقدام بن معدي كرب ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح برأسه وأذنيه وأدخل إصبعيه في صماخي أذنيه‏)‏ رواه أبو داود فيستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه‏,‏ ويمسح ظاهر أذنيه بإبهاميه ولا يجب مسح ما استتر بالغضاريف لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر والأذن أولى‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وغسل الرجلين إلى الكعبين وهما العظمان الناتئان غسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى‏:‏ أجمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على غسل القدمين وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه‏,‏ ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى وحكي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين وروي عن أنس بن مالك أنه ذكر له قول الحجاج‏:‏ اغسلوا القدمين ظاهرهما وباطنهما وخللوا ما بين الأصابع‏,‏ فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه فقال أنس‏:‏ صدق الله وكذب الحجاج وتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ وحكي عن الشعبي أنه قال‏:‏ الوضوء مغسولان وممسوحان فالممسوحان يسقطان في التيمم ولم نعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين غير من ذكرنا‏,‏ إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال‏:‏ هو مخير بين المسح والغسل واحتج بظاهر الآية وبما روى ابن عباس‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏توضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق مرة واحدة ثم أدخل يده‏,‏ فصب على وجهه مرة واحدة وصب على يديه مرة واحدة ومسح برأسه وأذنيه مرة واحدة‏,‏ ثم أخذ ملء كف من ماء فرش على قدميه وهو منتعل‏)‏ رواه سعيد وقال أيضا‏:‏ حدثنا هشيم أخبرنا يعلى بن عطاء عن أبيه‏,‏ قال‏:‏ أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي أنه رأى ‏(‏النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى كظامة قوم بالطائف فتوضأ ومسح على قدميه قال هشيم‏:‏ كان هذا في أول الإسلام‏)‏ ولنا أن عبد الله بن زيد‏,‏ وعثمان حكيا وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالا‏:‏ فغسل قدميه وفي حديث عثمان‏:‏ ‏(‏ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا‏,‏‏)‏ متفق عليه وفي لفظ‏:‏ ‏(‏ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا ثم غسل اليسرى مثل ذلك‏)‏ وعن علي أنه ‏(‏حكى وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا‏)‏ وكذلك قالت الربيع بنت معوذ والبراء بن عازب‏,‏ وعبد الله بن عمر رواهن سعيد وغيره وعن عمر رضي الله عنه ‏(‏أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر من قدمه فأبصره النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ ارجع فأحسن وضوءك فرجع فتوضأ ثم صلى‏)‏ رواه مسلم‏,‏ وفي لفظ‏:‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعيد الوضوء والصلاة‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ والأثرم قال الأثرم‏:‏ ذكر أبو عبد الله إسناد هذا الحديث قلت له‏:‏ إسناد جيد‏؟‏ قال‏:‏ نعم وعن عبد الله بن عمرو ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فقال‏:‏ ويل للأعقاب من النار‏)‏ وعن عائشة وأبي هريرة‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏ويل للأعقاب من النار‏)‏ رواهن مسلم وقد ذكرنا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتخليل الأصابع وأنه كان يعرك أصابعه بخنصره بعض العرك وهذا كله يدل على وجوب الغسل‏,‏ فإن الممسوح لا يحتاج إلى الاستيعاب والعرك وأما الآية فقد روى عكرمة عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يقرأ ‏{‏وأرجلكم‏}‏ قال‏:‏ عاد إلى الغسل وروي عن علي وابن مسعود والشعبي أنهم كانوا يقرءونها كذلك وروى ذلك كله سعيد‏,‏ وهي قراءة جماعة من القراء منهم ابن عامر فتكون معطوفة على اليدين في الغسل ومن قرأها بالجر فللمجاورة‏,‏ كما قال وأنشدوا‏:‏

كأن ثبيرا في عرانين وبله ** كبير أناس في بجاد مزمل

وأنشد‏:‏

وظل طهاة اللحم من بين منضج ** صفيف شواء أو قدير معجل

جر قديرا مع العطف للمجاورة وفي كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم‏}‏ جر أليما وهو صفة العذاب المنصوب‏,‏ لمجاورته المجرور وتقول العرب‏:‏ جحر ضب خرب وإذا كان الأمر فيها محتملا وجب الرجوع إلى بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدل على صحة هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عمرو بن عبسة‏:‏ ‏(‏ثم غسل رجليه كما أمره الله عز وجل‏)‏ فثبت بهذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أمر بالغسل لا بالمسح ويحتمل أنه أراد بالمسح الغسل الخفيف قال أبو علي الفارسي‏:‏ العرب تسمي خفيف الغسل مسحا‏,‏ فيقولون‏:‏ تمسحت للصلاة أي توضأت وقال أبو زيد الأنصاري نحو ذلك وتحديده بالكعبين دليل على أنه أراد الغسل فإن المسح ليس بمحدود فإن قيل‏:‏ فعطفه على الرأس دليل على أنه أراد حقيقة المسح قلنا‏:‏ قد افترقا من وجوه‏:‏ أحدها‏,‏ أن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله والرجلان بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات والثاني أنهما محدودان بحد ينتهي إليه‏,‏ فأشبها اليدين والثالث‏:‏ أنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض بخلاف الرأس وأما حديث أوس في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على قدميه فإنما أراد الغسل الخفيف وكذلك حديث ابن عباس‏,‏ ولذلك قال‏:‏ أخذ ملء كف من ماء فرش على قدميه والمسح يكون بالبلل لا برش الماء فأما قول الخرقي‏:‏ وهما العظمان الناتئان فأراد أن الكعبين هما اللذان في أسفل الساق من جانبي القدم وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال‏:‏ هما في مشط القدم وهو معقد الشراك من الرجل بدليل أنه قال‏:‏ ‏{‏إلى الكعبين‏}‏ فيدل على أن في الرجلين كعبين لا غير‏,‏ ولو أراد ما ذكرتموه كانت كعاب الرجلين أربعة فإن لكل قدم كعبين ولنا‏:‏ أن الكعاب المشهورة في العرف هي التي ذكرناها قال أبو عبيد‏:‏ الكعب الذي في أصل القدم منتهى الساق إليه‏,‏ بمنزلة كعاب القنا كل عقد منها يسمى كعبا وقد روى أبو القاسم الجدلي عن النعمان بن بشير قال‏:‏ كان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة‏,‏ ومنكبه بمنكب صاحبه رواه الخلال وقاله البخاري وروي ‏(‏أن قريشا كانت ترمي كعبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ورائه حتى تدميهما‏)‏ ومشط القدم أمامه وقوله تعالى‏:‏ إلى الكعبين حجة لنا فإنه أراد أن كل رجل تغسل إلى الكعبين إذ لو أراد كعاب جميع الأرجل لقال‏:‏ الكعاب كما قال‏:‏ ‏{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏‏.‏

فصل‏:‏

ويلزمه إدخال الكعبين في الغسل‏,‏ كقولنا في المرافق فيما مضى‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ويأتي بالطهارة عضوا بعد عضو كما أمر الله تعالى وجملة ذلك‏:‏ أن الترتيب في الوضوء على ما في الآية واجب عند أحمد لم أر عنه فيه اختلافا وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه غير واجب وهذا مذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي وروي أيضا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وروي عن علي ومكحول والنخعي والزهري والأوزاعي فيمن نسي مسح رأسه‏,‏ فرأى في لحيته بللا‏:‏ يمسح رأسه به ولم يأمروه بإعادة غسل رجليه واختاره ابن المنذر لأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء وعطف بعضها على بعض بواو الجمع‏,‏ وهي لا تقتضي الترتيب فكيفما غسل كان ممتثلا وروي عن علي وابن مسعود‏:‏ ما أبالي بأي أعضائي بدأت وقال ابن مسعود‏:‏ لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء ولنا أن في الآية قرينة تدل على أنه أريد بها الترتيب فإنه أدخل ممسوحا بين مغسولين والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة‏,‏ والفائدة ها هنا الترتيب فإن قيل‏:‏ فائدته استحباب الترتيب قلنا‏:‏ الآية ما سيقت إلا لبيان الواجب ولهذا لم يذكر فيها شيئا من السنن ولأنه متى اقتضى اللفظ الترتيب كان مأمورا به والأمر يقتضي الوجوب ولأن كل من حكى وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكاه مرتبا وهو مفسر لما في كتاب الله تعالى‏,‏ وتوضأ مرتبا وقال‏:‏ ‏(‏هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به‏)‏ أي بمثله وما روي عن علي وابن مسعود قال أحمد‏:‏ إنما عنيا به اليسرى قبل اليمنى لأن مخرجهما من الكتاب واحد ثم قال أحمد‏:‏ حدثنا جرير‏,‏ عن قابوس عن أبيه أن عليا سئل‏,‏ فقيل له‏:‏ أحدنا يستعجل فيغسل شيئا قبل شيء‏؟‏ قال‏:‏ لا حتى يكون كما أمر الله تعالى والرواية الأخرى عن ابن مسعود ولا يعرف لها أصل‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجب الترتيب بين اليمنى واليسرى‏,‏ لا نعلم فيه خلافا لأن مخرجهما في الكتاب واحد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأيديكم‏.‏‏.‏‏.‏ وأرجلكم‏}‏ والفقهاء يعدون اليدين عضوا والرجلين عضوا ولا يجب الترتيب في العضو الواحد‏,‏ وقد دل على ذلك قول علي وابن مسعود‏.‏

فصل‏:‏

وإذا نكس وضوءه فبدأ بشيء من أعضائه قبل وجهه لم يحتسب بما غسله قبل وجهه‏,‏ فإذا غسل وجهه مع بقاء نيته أو بعدها بزمن يسير احتسب له به ثم يرتب الأعضاء الثلاثة وإن غسل وجهه ثم مسح رأسه ثم غسل يديه ورجليه أعاد مسح رأسه وغسل رجليه وإن غسل وجهه ويديه ثم غسل رجليه ثم مسح رأسه‏,‏ صح وضوءه إلا غسل رجليه وإن نكس وضوءه جميعه لم يصح له إلا غسل وجهه وإن توضأ منكسا أربع مرات صح وضوءه‏,‏ يحصل له من كل مرة غسل عضو إذا كان متقاربا ومذهب الشافعي مثل ما ذكرنا ولو غسل أعضاءه دفعة واحدة لم يصح له إلا غسل وجهه لأنه لم يرتب وإن انغمس في ماء جار فلم يمر على أعضائه إلا جرية واحدة فكذلك وإن مر عليه أربع جريات وقلنا‏:‏ الغسل يجزئ عن المسح أجزأه كما لو توضأ أربع مرات وإن كان الماء راكدا‏,‏ فقال بعض أصحابنا‏:‏ إذا أخرج وجهه ثم يديه ثم مسح رأسه ثم خرج من الماء أجزأه لأن الحدث إنما يرتفع بانفصال الماء عن العضو ونص أحمد في رجل أراد الوضوء فانغمس في الماء‏,‏ ثم خرج من الماء فعليه مسح رأسه وغسل رجليه وهذا يدل على أن الماء إذا كان جاريا فمرت عليه جرية واحدة أنه يجزئه مسح رأسه وغسل رجليه وإن اجتمع الحدثان‏,‏ سقط الترتيب والموالاة على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى-‏.‏

فصل‏:‏

ولم يذكر الخرقي الموالاة وهي واجبة عند أحمد نص عليها في مواضع وهذا قول الأوزاعي وأحد قولي الشافعي قال القاضي‏:‏ ونقل حنبل عن أحمد أنها غير واجبة وهذا قول أبي حنيفة لظاهر الآية ولأن المأمور به غسل الأعضاء‏,‏ فكيفما غسل جاز ولأنها إحدى الطهارتين فلم تجب الموالاة فيها كالغسل وقال مالك‏:‏ إن تعمد التفريق بطل وإلا فلا ولنا ما ذكرنا من رواية عمر‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعيد الوضوء والصلاة‏)‏ ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسل اللمعة ولأنها عبادة يفسدها الحدث فاشترطت لها الموالاة كالصلاة‏,‏ والآية دلت على وجوب الغسل والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين كيفيته وفسر مجمله بفعله وأمره‏,‏ فإنه لم يتوضأ إلا متواليا وأمر تارك الموالاة بإعادة الوضوء وغسل الجنابة بمنزلة غسل عضو واحد‏,‏ بخلاف الوضوء‏.‏

فصل‏:‏

والموالاة الواجبة أن لا يترك غسل عضو حتى يمضي زمن يجف فيه العضو الذي قبله في الزمان المعتدل لأنه قد يسرع جفاف العضو في بعض الزمان دون بعض ولأنه يعتبر ذلك فيما بين طرفي الطهارة وقال ابن عقيل في رواية أخرى إن حد التفريق المبطل ما يفحش في العادة لأنه لم يحد في الشرع فيرجع فيه إلى العادة‏,‏ كالإحراز والتفرق في البيع‏.‏

فصل‏:‏

وإن نشفت أعضاؤه لاشتغاله بواجب في الطهارة أو مسنون لم يعد تفريقا كما لو طول أركان الصلاة قال أحمد إذا كان في علاج الوضوء فلا بأس‏,‏ وإن كان لوسوسة تلحقه فكذلك لأنه في علاج الوضوء وإن كان ذلك لعبث أو شيء زائد على المسنون وأشباهه عد تفريقا ويحتمل أن تكون الوسوسة كذلك لأنه مشتغل بما ليس بمفروض ولا مسنون‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ والوضوء مرة مرة يجزئ‏,‏ والثلاث أفضل هذا قول أكثر أهل العلم إلا أن مالكا لم يوقت مرة ولا ثلاثا قال‏:‏ إنما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاغسلوا وجوهكم‏}‏ وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز‏:‏ الوضوء ثلاثا ثلاثا إلا غسل الرجلين‏,‏ فإنه ينقيهما وقد روي عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏توضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة مرة‏)‏ رواه البخاري وروى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏توضأ مرتين مرتين‏)‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ هذا حديث حسن غريب وعن علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏توضأ ثلاثا ثلاثا‏)‏ قال الترمذي‏:‏ حديث علي أحسن شيء في هذا الباب وأصح وقال سعيد‏:‏ حدثنا سلام الطويل‏,‏ عن زيد العمي عن معاوية بن قرة عن ابن عمر‏,‏ أن ‏(‏رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا بماء فتوضأ مرة مرة ثم قال‏:‏ هذا وظيفة الوضوء‏,‏ وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ مرتين‏,‏ مرتين فقال‏:‏ هذا وضوء من توضأه ضاعف الله له الأجر مرتين ثم تحدث ساعة‏,‏ ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال‏:‏ هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي‏)‏ وروى ابن ماجه بإسناده عن أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو هذا‏,‏ وروى مسلم في صحيحه ‏(‏أن عثمان دعا بوضوء فتوضأ وغسل كفيه ثلاث مرات ثم تمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات‏,‏ ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ثم مسح برأسه‏,‏ ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم قال‏:‏ رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ نحو وضوئي هذا‏,‏ ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏ قال ابن شهاب وكان علماؤنا يقولون‏:‏ هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة‏.‏

فصل‏:‏

وإن غسل بعض أعضائه مرة وبعضها أكثر‏,‏ جاز لأنه إذا جاز ذلك في الكل جاز في البعض وفي حديث عبد الله بن زيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏توضأ فغسل وجهه ثلاثا‏,‏ وغسل يديه مرتين ومسح برأسه مرة‏)‏ متفق عليه

فصل‏:‏

قال أحمد -رحمه الله-‏:‏ لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى وقال ابن المبارك لا آمن من ازداد على الثلاث أن يأثم وقال إبراهيم النخعي تشديد الوضوء من الشيطان لو كان هذا فضلا لأوثر به أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وروى عمرو بن شعيب‏,‏ عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏(‏جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن الوضوء‏,‏ فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال‏:‏ هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ والنسائي وابن ماجه‏.‏

فصل‏:‏

وإذا فرغ من وضوئه استحب أن يرفع نظره إلى السماء ثم يقول ما رواه مسلم في صحيحه‏,‏ عن عمر بن الخطاب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله‏,‏ وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء‏)‏ ورواه أبو بكر الخلال بإسناده‏,‏ وفيه‏:‏ ‏(‏من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء وفيه‏:‏ اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

ولا بأس بالمعاونة على الوضوء لما روى المغيرة بن شعبة‏,‏ أنه ‏(‏أفرغ على النبي -صلى الله عليه وسلم- في وضوئه‏)‏ رواه مسلم وروي عن صفوان بن عسال قال‏:‏ ‏(‏صببت على النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر والحضر‏)‏ وعن أم عياش‏,‏ وكانت أمة لرقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت‏:‏ ‏(‏كنت أوضئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا قائمة وهو قاعد‏)‏ رواهما ابن ماجه وروي عن أحمد أنه قال‏:‏ ما أحب أن يعينني على وضوئي أحد لأن عمر قال ذلك‏.‏

فصل‏:‏

ولا بأس بتنشيف أعضائه بالمنديل من بلل الوضوء والغسل قال الخلال المنقول عن أحمد أنه لا بأس بالتنشيف بعد الوضوء وممن روي عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن علي وأنس وكثير من أهل العلم ونهى عنه جابر بن عبد الله وكرهه عبد الرحمن بن مهدي وجماعة من أهل العلم لأن ميمونة روت ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اغتسل فأتيته بالمنديل‏,‏ فلم يردها وجعل ينفض الماء بيده‏)‏ متفق عليه والأول أصح لأن الأصل الإباحة وترك النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدل على الكراهة‏,‏ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد يترك المباح كما يفعله وقد روى أبو بكر في الشافي بإسناده عن عروة عن عائشة‏,‏ قالت‏:‏ ‏(‏كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- خرقة يتنشف بها بعد الوضوء‏)‏ وسئل أحمد عن هذا الحديث فقال‏:‏ منكر منكر وروي عن قيس بن سعد ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اغتسل ثم أتيناه بملحفة ورسية‏,‏ فالتحف بها‏)‏ إلا أن الترمذي قال‏:‏ لا يصح في هذا الباب شيء ولا يكره نفض الماء عن بدنه بيديه لحديث ميمونة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وإذا توضأ لنافلة صلى فريضة لا أعلم في هذه المسألة خلافا وذلك لأن النافلة تفتقر إلى رفع الحدث كالفريضة وإذا ارتفع الحدث تحقق شرط الصلاة وارتفع المانع فأبيح له الفرض‏,‏ وكذلك كل ما يفتقر إلى الطهارة كمس المصحف والطواف إذا توضأ له ارتفع حدثه‏,‏ وصحت طهارته وأبيح له سائر ما يحتاج إلى الطهارة وقد ذكرنا ذلك فيما مضى‏.‏

فصل‏:‏

يجوز أن يصلي بالوضوء ما لم يحدث ولا نعلم في هذا خلافا قال أحمد بن قاسم‏:‏ سألت أحمد عن رجل صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد‏؟‏ قال‏:‏ ما بأس بهذا إذا لم ينتقض وضوءه‏,‏ ما ظننت أن أحدا أنكر هذا وقال‏:‏ ‏(‏صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد‏)‏ وروى أنس قال‏:‏ ‏(‏كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ عند كل صلاة قلت‏:‏ وكيف كنتم تصنعون قال‏:‏ يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث‏)‏ رواه البخاري وأبو داود وفي مسلم عن بريدة قال‏:‏ ‏(‏صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد‏,‏ ومسح على خفيه فقال له عمر‏:‏ إني رأيتك صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال‏:‏ عمدا صنعته‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

وتجديد الوضوء مستحب‏,‏ نص أحمد عليه في رواية موسى بن عيسى ونقل حنبل عنه أنه كان يفعله وذلك لما روينا من الحديث وعن غطيف الهذلي‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏رأيت ابن عمر يوما توضأ لكل صلاة فقلت‏:‏ أصلحك الله أفريضة أم سنة‏,‏ الوضوء عند كل صلاة‏؟‏ فقال‏:‏ لا لو توضأت لصلاة الصبح لصليت به الصلوات كلها ما لم أحدث ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ من توضأ على طهر فله عشر حسنات وإنما رغبت في الحسنات‏)‏ أخرجه أبو داود وابن ماجه وقد نقل علي بن سعيد‏,‏ عن أحمد‏:‏ لا فضل فيه والأول أصح‏.‏

فصل‏:‏

ولا بأس بالوضوء في المسجد إذا لم يؤذ أحدا بوضوئه ولم يبل موضع الصلاة قال ابن المنذر أباح ذلك كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار منهم‏:‏ ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس وأبو بكر بن محمد وابن عمر وابن حزم وابن جريج وعوام أهل العلم‏,‏ قال‏:‏ وبه نقول إلا أن يبل مكانا يجتاز الناس فيه فإني أكرهه‏,‏ إلا أن يفحص الحصى عن البطحاء كما فعل لعطاء وطاوس فإذا توضأ رد الحصى عليه فإني لا أكرهه‏,‏ وقد روي عن أحمد أنه يكرهه صيانة للمسجد عن البصاق والمخاط وما يخرج من فضلات الوضوء‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء رويت الكراهية لذلك عن عمر وعلي والحسن والنخعي والزهري وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول‏:‏ ‏{‏سبحان الذي سخر لنا هذا‏}‏ ‏{‏وقل رب أنزلني منزلا مباركا‏}‏ وقال ابن عباس يقرأ ورده وقال سعيد بن المسيب‏:‏ يقرأ القرآن أليس هو في جوفه وحكي عن مالك للحائض القراءة دون الجنب لأن أيامها تطول‏,‏ فإن منعناها من القراءة نسيت ولنا‏:‏ ما روي عن علي رضي الله عنه ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يحجبه أو قال‏:‏ يحجزه‏,‏ عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة‏)‏ رواه أبو داود والنسائي‏,‏ والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح وعن ابن عمر ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن‏)‏ رواه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ يرويه إسماعيل بن عياش عن نافع‏,‏ وقد ضعف البخاري روايته عن أهل الحجاز وقال‏:‏ إنما روايته عن أهل الشام وإذا ثبت هذا في الجنب ففي الحائض أولى لأن حدثها آكد‏,‏ ولذلك حرم الوطء ومنع الصيام وأسقط الصلاة‏,‏ وساواها في سائر أحكامها‏.‏

فصل‏:‏

ويحرم عليهم قراءة آية فأما بعض آية فإن كان مما لا يتميز به القرآن عن غيره كالتسمية والحمد لله وسائر الذكر‏,‏ فإن لم يقصد به القرآن فلا بأس فإنه لا خلاف في أن لهم ذكر الله تعالى ويحتاجون إلى التسمية عند اغتسالهم‏,‏ ولا يمكنهم التحرز من هذا وإن قصدوا به القراءة أو كان ما قرءوه شيئا يتميز به القرآن عن غيره من الكلام ففيه روايتان‏:‏ إحداهما لا يجوز‏,‏ وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن الجنب يقرأ القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ لا ولا حرفا وهذا مذهب الشافعي لعموم الخبر في النهي ولأنه قرآن فمنع من قراءته‏,‏ كالآية والثانية لا يمنع منه وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يحصل به الإعجاز ولا يجزئ في الخطبة‏,‏ ويجوز إذا لم يقصد به القرآن وكذلك إذا قصد‏.‏

فصل‏:‏

وليس لهم اللبث في المسجد لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا‏}‏ وروت عائشة‏,‏ قالت‏:‏ ‏(‏جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال‏:‏ وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب‏)‏ رواه أبو داود ويباح العبور للحاجة من أخذ شيء‏,‏ أو تركه أو كون الطريق فيه فأما لغير ذلك فلا يجوز بحال وممن نقلت عنه الرخصة في العبور‏:‏ ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وابن جبير والحسن ومالك والشافعي وقال الثوري وإسحاق لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بدا‏,‏ فيتيمم وهو قول أصحاب الرأي لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا أحل المسجد لحائض ولا جنب‏)‏ ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا عابري سبيل‏}‏ والاستثناء من المنهي عنه إباحة وعن عائشة ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها‏:‏ ناوليني الخمرة من المسجد قالت‏:‏ إني حائض قال إن حيضتك ليست في يدك‏)‏ رواه مسلم وعن جابر قال‏:‏ كنا نمر في المسجد ونحن جنب رواه ابن المنذر وعن زيد بن أسلم‏,‏ قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشون في المسجد وهم جنب رواه ابن المنذر أيضا وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا‏.‏

فصل‏:‏

فأما المستحاضة ومن به سلس البول‏,‏ فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا تلويث المسجد لما روي عن عائشة أن ‏(‏امرأة من أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتكفت معه وهي مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي‏)‏ رواه البخاري ولأنه حدث لا يمنع الصلاة فلم يمنع اللبث‏,‏ كخروج الدم اليسير من أنفه فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور فإن المسجد يصان عن هذا كما يصان عن البول فيه ولو خشيت الحائض تلويث المسجد بالعبور فيه لم يكن لها ذلك‏.‏

فصل‏:‏

وإن خاف الجنب على نفسه أو ماله‏,‏ أو لم يمكنه الخروج من المسجد أو لم يجد مكانا غيره أو لم يمكنه الغسل ولا الوضوء‏,‏ تيمم ثم أقام في المسجد وروي عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن بن مسلم بن يناق في تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جنبا إلا عابري سبيل‏}‏ يعني مسافرين لا يجدون ماء‏,‏ فيتيممون وقال بعض أصحابنا‏:‏ يلبث بغير تيمم لأن التيمم لا يرفع الحدث وهذا غير صحيح لأنه يخالف قول من سمينا من الصحابة ولأن هذا أمر يشترط له الطهارة فوجب التيمم له عند العجز عنها كالصلاة وسائر ما يشترط له الطهارة وقولهم‏:‏ لا يرفع الحدث قلنا‏:‏ إلا أنه يقوم مقام ما يرفع الحدث في إباحة ما يستباح به‏.‏

فصل‏:‏

إذا توضأ الجنب فله اللبث في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق وقال أكثر أهل العلم‏:‏ لا يجوز للآية والخبر واحتج أصحابنا بما روي عن زيد بن أسلم‏,‏ قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحدثون في المسجد على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ثم يدخل‏,‏ فيتحدث وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا يخص به العموم ولأنه إذا توضأ خف حكم الحدث فأشبه التيمم عند عدم الماء‏,‏ ودليل خفته أمر النبي الجنب به إذا أراد النوم واستحبابه لمن أراد الأكل ومعاودة الوطء فأما الحائض إذا توضأت فلا يباح لها اللبث لأن وضوءها لا يصح‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ولا يمس المصحف إلا طاهر يعني طاهرا من الحدثين جميعا روي هذا عن ابن عمر والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والقاسم بن محمد وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم مخالفا لهم إلا داود فإنه أباح مسه واحتج بأن ‏(‏النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب في كتابه آية إلى قيصر‏)‏ وأباح الحكم وحماد مسه بظاهر الكف لأن آلة المس باطن اليد‏,‏ فينصرف النهي إليه دون غيره ولنا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ وفي ‏(‏كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر‏)‏ وهو كتاب مشهور رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وغيره ورواه الأثرم‏,‏ فأما الآية التي كتب بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنما قصد بها المراسلة والآية في الرسالة أو كتاب فقه أو نحوه لا تمنع مسه ولا يصير الكتاب بها مصحفا‏,‏ ولا تثبت له حرمته إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز له مسه بشيء من جسده لأنه من جسده فأشبه يده وقولهم‏:‏ إن المس إنما يختص بباطن اليد ليس بصحيح فإن كل شيء لاقى شيئا فقد مسه‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز حمله بعلاقته وهذا قول أبي حنيفة وروي ذلك عن الحسن وعطاء وطاوس والشعبي والقاسم وأبي وائل والحكم وحماد ومنع منه الأوزاعي ومالك والشافعي قال مالك أحسن ما سمعت أنه لا يحمل المصحف بعلاقته ولا في غلافه إلا وهو طاهر وليس ذلك لأنه يدنسه ولكن تعظيما للقرآن واحتجوا بأنه مكلف محدث قاصد لحمل المصحف‏,‏ فلم يجز كما لو حمله مع مسه ولنا‏:‏ أنه غير ماس له فلم يمنع منه‏,‏ كما لو حمله في رحله ولأن النهي إنما يتناول المس والحمل ليس بمس فلم يتناوله النهي‏,‏ وقياسهم فاسد فإن العلة في الأصل مسه وهو غير موجود في الفرع والحمل لا أثر له‏,‏ فلا يصح التعليل به وعلى هذا لو حمله بعلاقة أو بحائل بينه وبينه مما لا يتبعه في البيع جاز لما ذكرنا وعندهم لا يجوز ووجه المذهبين ما تقدم ويجوز تقليبه بعود ومسه به وكتب المصحف بيده من غير أن يمسه‏,‏ وفي تصفحه بكمه روايتان وخرج القاضي في مس غلافه وحمله بعلاقته رواية أخرى أنه لا يجوز بناء على مسه بكمه والصحيح‏:‏ جوازه لأن النهي إنما يتناول مسه والحمل ليس بمس‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز مس كتب التفسير والفقه وغيرها والرسائل‏,‏ وإن كان فيها آيات من القرآن بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى قيصر كتابا فيه آية ولأنها لا يقع عليها اسم مصحف ولا تثبت لها حرمته وفي مس صبيان الكتاتيب ألواحهم التي فيها القرآن وجهان‏:‏ أحدهما الجواز لأنه موضع حاجة‏,‏ فلو اشترطنا الطهارة أدى إلى تنفيرهم عن حفظه والثاني المنع لدخولهم في عموم الآية وفي الدراهم المكتوب عليها القرآن وجهان‏:‏ أحدهما المنع وهو قول أبي حنيفة وكرهه عطاء والقاسم والشعبي لأن القرآن مكتوب عليها فأشبهت الورق والثاني الجواز لأنه لا يقع عليها اسم المصحف‏,‏ فأشبهت كتب الفقه ولأن في الاحتراز منها مشقة أشبهت ألواح الصبيان‏.‏

فصل‏:‏

وإن احتاج المحدث إلى مس المصحف عند عدم الماء تيمم‏,‏ وجاز مسه ولو غسل المحدث بعض أعضاء الوضوء لم يجز له مسه به قبل إتمام وضوئه لأنه لا يكون متطهرا إلا بغسل الجميع‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الحرب لما روي ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم‏)‏‏.‏

باب الاستطابة والحدث

الاستطابة‏:‏ هي الاستنجاء بالماء أو بالأحجار‏,‏ يقال استطاب وأطاب‏:‏ إذا استنجى سمى استطابة لأنه يطيب جسده بإزالة الخبث عنه قال الشاعر يهجو رجلا‏:‏

يا رخما قاظ على عرقوب ** يعجل كف الخارئ المطيب

والاستنجاء‏:‏ استفعال من نجوت الشجرة أي‏:‏ قطعتها‏,‏ فكأنه قطع الأذى عنه وقال ابن قتيبة هو مأخوذ من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن من أراد قضاء الحاجة استتر بها والاستجمار‏:‏ استفعال من الجمار‏,‏ وهي الحجارة الصغار لأنه يستعملها في استجماره‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء ولا نعلم في هذا خلافا قال أبو عبد الله ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسوله إنما عليه الوضوء‏,‏ وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏من استنجى من ريح فليس منا‏)‏ رواه الطبراني في معجمه الصغير وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ إذا قمتم من النوم ولم يأمر بغيره‏,‏ فدل على أنه لا يجب ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بالاستنجاء هنا نص ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة‏,‏ ولا نجاسة ها هنا‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ والاستنجاء لما خرج من السبيلين هذا فيه إضمار وتقديره‏:‏ والاستنجاء واجب فحذف خبر المبتدإ اختصارا‏,‏ وأراد ما خرج غير الريح لأنه قد بين حكمها وسواء كان الخارج معتادا كالبول والغائط‏,‏ أو نادرا كالحصى والدود والشعر رطبا أو يابسا ولو احتقن فرجعت أجزاء خرجت من الفرج‏,‏ أو وطئ رجل امرأته دون الفرج فدب ماؤه إلى فرجها ثم خرج منه فعليهما الاستنجاء على ظاهر كلام الخرقي وقد صرح به القاضي وغيره ولو أدخل الميل في ذكره‏,‏ ثم أخرجه لزمه الاستنجاء لأنه خارج من السبيل فأشبه الغائط المستحجر‏,‏ والقياس أن لا يجب من ناشف لا ينجس المحل للمعنى الذي ذكرنا في الريح وهو قول الشافعي وهكذا الحكم في الطاهر‏,‏ وهو المني إذا حكمنا بطهارته والقول بوجوب الاستنجاء في الجملة قول أكثر أهل العلم وحكي عن ابن سيرين فيمن صلى بقوم ولم يستنج‏:‏ لا أعلم به بأسا وهذا يحتمل أن يكون فيمن لم يلزمه الاستنجاء كمن لزمه الوضوء لنوم أو خروج ريح‏,‏ أو من ترك الاستنجاء ناسيا فيكون موافقا لقول الجماعة ويحتمل أنه لم ير وجوب الاستنجاء وهذا قول أبي حنيفة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن‏,‏ ومن لا فلا حرج‏)‏ رواه أبو داود ولأنها نجاسة يكتفى فيها بالمسح فلم تجب إزالتها كيسير الدم ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار‏)‏ رواه مسلم وفي لفظ لمسلم‏:‏ ‏(‏لقد نهانا أن نستنجي بدون ثلاثة أحجار‏)‏ فأمر والأمر يقتضي الوجوب وقال‏:‏ فإنها تجزئ عنه والإجزاء إنما يستعمل في الواجب‏,‏ ونهى عن الاقتصار على أقل من ثلاثة والنهي يقتضي التحريم وإذا حرم ترك بعض النجاسة فترك جميعها أولى وقال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار‏)‏ وأمر بالعدد في أخبار كثيرة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏[‏ لا حرج‏]‏ يعني في ترك الوتر لا في ترك الاستجمار لأن المأمور به في الخبر الوتر فيعود نفي الحرج إليه‏,‏ وأما الاجتزاء بالمسح فيه فلمشقة الغسل لكثرة تكرره في محل الاستنجاء‏.‏

فصل‏:‏

وهو مخير بين الاستنجاء بالماء أو الأحجار في قول أكثر أهل العلم وحكي عن سعد بن أبي وقاص وابن الزبير أنهما أنكرا الاستنجاء بالماء وقال سعيد بن المسيب وهل يفعل ذلك إلا النساء‏,‏ وقال عطاء غسل الدبر محدث وكان الحسن لا يستنجي بالماء وروي عن حذيفة القولان جميعا وكان ابن عمر لا يستنجي بالماء ثم فعله وقال لنافع‏:‏ جربناه فوجدناه صالحا وهو مذهب رافع بن خديج وهو الصحيح لما روى أنس قال‏:‏ ‏(‏كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة‏,‏ فيستنجي بالماء‏)‏ متفق عليه وعن عائشة ‏(‏أنها قالت‏:‏ مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يفعله‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث صحيح رواه سعيد وروى أبو هريرة‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏نزلت هذه الآية في أهل قباء ‏{‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا‏}‏ قال‏:‏ كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم‏)‏ رواه أبو داود وابن ماجه ولأنه يطهر المحل‏,‏ ويزيل النجاسة فجاز كما لو كانت النجاسة على محل آخر وإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لما روينا من الحديث ولأنه يطهر المحل‏,‏ ويزيل العين والأثر وهو أبلغ في التنظيف وإن اقتصر على الحجر أجزأه بغير خلاف بين أهل العلم لما ذكرنا من الأخبار ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم‏,‏ والأفضل أن يستجمر بالحجر ثم يتبعه الماء قال أحمد‏:‏ إن جمعهما فهو أحب إلي لأن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏مرن أزواجكن أن يتبعن الحجارة الماء من أثر الغائط والبول فإني أستحييهم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله‏)‏ احتج به أحمد ورواه سعيد ولأن الحجر يزيل عين النجاسة فلا تصيبها يده‏,‏ ثم يأتي بالماء فيطهر المحل فيكون أبلغ في التنظيف وأحسن‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ فإن لم يعدوا مخرجهما أجزأه أحجار إذا أنقى بهن فإن أنقى بدون الثلاثة لم يجزه‏,‏ حتى يأتي بالعدد وإن لم ينق بالثلاثة زاد حتى ينقي قوله‏:‏ يعدوا مخرجهما يعني الخارجين من السبيلين إذا لم يتجاوزا مخرجهما يقال‏:‏ عداك الشر أي‏:‏ تجاوزك والمراد والله أعلم‏,‏ إذا لم يتجاوز المخرج بما لم تجر العادة به فإن اليسير لا يمكن التحرز منه والعادة جارية به‏,‏ وإذا كان كذلك فإنه يجزئه ثلاثة أحجار منقية ومعنى الإنقاء إزالة عين النجاسة وبلتها بحيث يخرج الحجر نقيا وليس عليه أثر إلا شيئا يسيرا ويشترط الأمران جميعا الإنقاء وإكمال الثلاثة‏,‏ أيهما وجد دون صاحبه لم يكف وهذا مذهب الشافعي وجماعة وقال مالك وداود‏:‏ الواجب الإنقاء دون العدد لقوله عليه السلام ‏(‏من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج‏)‏ ولنا‏:‏ قول سلمان‏:‏ ‏(‏لقد نهانا - يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- - أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار‏)‏ وما ذكرنا من الأحاديث‏,‏ وحديثهم قد أجبنا عنه فيما مضى‏.‏

فصل‏:‏

وإذا زاد على الثلاثة استحب أن لا يقطع إلا على وتر لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من استجمر فليوتر‏)‏ متفق عليه فيستجمر خمسا أو سبعا أو تسعا أو ما زاد على ذلك فإن اقتصر على شفع منقية‏,‏ فيما زاد على الثلاثة جاز لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ومن لا فلا حرج‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

وكيفما حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأه وذكر القاضي أن المستحب أن يمر الحجر الأول من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها ثم يديره على اليسرى ثم يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحتين وحجرا للمسربة‏,‏‏)‏ رواه الدارقطني وقال‏:‏ إسناده حسن وينبغي أن يعم المحل بكل واحد من الأحجار لأنه إذا لم يعم به كان ذلك تلفيقا فيكون بمنزلة مسحة واحدة ولا يكون تكرارا ذكر هذا الشريف أبو جعفر‏,‏ وابن عقيل وقالا‏:‏ معنى الحديث البداية بهذه المواضع ويحتمل أن يجزئه لكل جهة مسحة لظاهر الخبر والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

ولا يستجمر بيمينه‏,‏ لقول سلمان في حديثه‏:‏ ‏(‏إنه لينهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه‏)‏ رواه مسلم وروى أبو قتادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه‏,‏ ولا يتمسح من الخلاء بيمينه‏)‏ متفق عليه فإن كان يستنجي من غائط أخذ الحجر بشماله فمسح به وإن كان يستنجي من البول وكان الحجر كبيرا أخذ ذكره بشماله فمسح به وإن كان صغيرا فأمكنه أن يضعه بين عقبيه‏,‏ أو بين أصابعه ويمسح ذكره عليه فعل وإن لم يمكنه‏,‏ أمسكه بيمينه ومسح بيساره لموضع الحاجة وقيل‏:‏ يمسك ذكره بيمينه ويمسح بشماله ليكون المسح بغير اليمين والأول أولى لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه‏)‏ وإذا أمسك الحجر باليمين‏,‏ ومسح الذكر عليه لم يكن ماسحا باليمين ولا ممسكا للذكر بها‏,‏ وإن كان أقطع اليسرى أو بها مرض استجمر بيمينه للحاجة ولا يكره الاستعانة بها في الماء لأن الحاجة داعية إليه وإن استجمر بيمينه مع الغنى عنه‏,‏ أجزأه في قول أكثر أهل العلم وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه لا يجزئه لأنه منهي عنه فلم يفد مقصوده كما لو استنجى بالروث والرمة‏,‏ فإن النهي يتناول الأمرين والفرق بينهما أن الروث آلة الاستجمار المباشرة للمحل وشرطه فلم يجز استعمال المنهي عنه فيها‏,‏ واليد ليست المباشرة للمحل ولا شرطا فيه إنما يتناول بها الحجر الملاقي للمحل فصار النهي عنها نهي تأديب‏,‏ لا يمنع الإجزاء‏.‏

فصل‏:‏

ويبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل لئلا تتلوث يده إذا شرع في الدبر لأن قبله بارز تصيبه اليد إذا مدها إلى الدبر والمرأة مخيرة في البداية بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها ويستحب أن يمكث بعد البول قليلا‏,‏ ويضع يده على أصل الذكر من تحت الأنثيين ثم يسلته إلى رأسه فينتر ذكره ثلاثا برفق قال أحمد إذا توضأت فضع يدك في سفلتك ثم اسلت ما ثم حتى ينزل‏,‏ ولا تجعل ذلك من همك ولا تلتفت إلى ظنك وقد روى يزداد اليماني قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات‏)‏ رواه الإمام أحمد وإذا استنجى بالماء ثم فرغ‏,‏ استحب له دلك يده بالأرض لما روي عن ‏(‏ميمونة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك‏)‏ رواه البخاري وروي ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى حاجته ثم استنجى من تور‏,‏ ثم دلك يده بالأرض‏)‏ أخرجه ابن ماجه وإن استنجى عقيب انقطاع البول جاز لأن الظاهر انقطاعه وقد قيل‏:‏ إن الماء يقطع البول‏,‏ ولذلك سمي الاستنجاء انتقاص الماء ويستحب أن ينضح على فرجه وسراويله ليزيل الوسواس عنه قال حنبل‏:‏ سألت أحمد قلت‏:‏ أتوضأ وأستبرئ وأجد في نفسي إني قد أحدثت بعد قال‏:‏ إذا توضأت فاستبرئ‏,‏ وخذ كفا من ماء فرشه على فرجك ولا تلتفت إليه فإنه يذهب إن شاء الله وقد روى أبو هريرة ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ جاءني جبريل‏,‏ فقال‏:‏ يا محمد إذا توضأت فانتضح‏)‏ وهو حديث غريب‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ والخشب والخرق وكل ما أنقي به فهو كالأحجار هذا الصحيح من المذهب وهو قول أكثر أهل العلم وفيه رواية أخرى‏,‏ لا يجزئ إلا الأحجار اختارها أبو بكر وهو مذهب داود لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالأحجار وأمره يقتضي الوجوب ولأنه موضع رخصة ورد الشرع فيها بآلة مخصوصة فوجب الاقتصار عليها‏,‏ كالتراب في التيمم ولنا ما روى أبو داود عن خزيمة قال‏:‏ ‏(‏سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الاستطابة‏,‏ فقال‏:‏ بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع‏)‏ فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن منها الرجيع لأنه لا يحتاج إلى ذكره ولم يكن لتخصيص الرجيع بالذكر معنى وفي حديث سلمان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏إنه لينهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار‏,‏ وأن نستجمر برجيع أو عظم‏)‏ رواه مسلم وتخصيص هذين بالنهي عنهما يدل على أنه أراد الحجارة وما قام مقامها وروى طاوس‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله ولا يستقبلها ولا يستدبرها وليستطب بثلاثة أحجار‏,‏ أو ثلاثة أعواد أو ثلاث حثيات من تراب‏)‏ رواه الدارقطني وقال‏:‏ وقد روي عن ابن عباس مرفوعا‏,‏ والصحيح أنه مرسل ورواه سعيد في سننه موقوفا على طاوس ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى والمعنى ها هنا إزالة عين النجاسة‏,‏ وهذا يحصل بغير الأحجار كحصوله بها وبهذا يخرج التيمم فإنه غير معقول‏,‏ ولا بد أن يكون ما يستجمر به منقيا لأن الإنقاء مشترط في الاستجمار فأما الزلج كالزجاج والفحم الرخو وشبههما مما لا ينقي فلا يجزئ لأنه لا يحصل منه المقصود ويشترط كونه طاهرا‏,‏ فإن كان نجسا لم يجزه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجزئه لأنه يجفف كالطاهر ولنا ‏(‏أن ابن مسعود جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بحجرين وروثة يستجمر بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة‏,‏ وقال‏:‏ هذه ركس‏)‏ رواه البخاري وفي لفظ رواه الترمذي قال‏:‏ إنها ركس يعني نجسا‏,‏ وهذا تعليل من النبي -صلى الله عليه وسلم- يجب المصير إليه ولأنه إزالة نجاسة فلا يحصل بالنجاسة كالغسل فإن استنجى بنجس احتمل أن لا يجزئه الاستجمار بعده لأن المحل تنجس بنجاسة من غير المخرج‏,‏ فلم يجزئ فيها غير الماء كما لو تنجس ابتداء ويحتمل أن يجزئه لأن هذه النجاسة تابعة لنجاسة المحل‏,‏ فزالت بزوالها‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ إلا الروث والعظام والطعام وجملته أنه لا يجوز الاستجمار بالروث ولا العظام ولا يجزئ في قول أكثر أهل العلم‏,‏ وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأباح أبو حنيفة الاستنجاء بهما لأنهما يجففان النجاسة‏,‏ وينقيان المحل فهما كالحجر وأباح مالك الاستنجاء بالطاهر منهما وقد ذكرنا نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهما وروى مسلم‏,‏ عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن‏)‏ وروى الدارقطني ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن نستنجي بروث أو عظم وقال‏:‏ إنهما لا يطهران‏)‏ وقال‏:‏ إسناد صحيح وروى أبو داود عنه عليه السلام ‏(‏أنه قال لرويفع بن ثابت‏,‏ أبي بكرة‏:‏ أخبر الناس أنه من استنجى برجيع أو عظم فهو بريء من دين محمد‏)‏ وهذا عام في الطاهر منها والنهي يقتضي الفساد وعدم الإجزاء فأما الطعام فتحريمه من طريق التنبيه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علل النهي عن الروث والرمة في حديث ابن مسعود بكونهما زاد إخواننا من الجن‏,‏ فزادنا مع عظم حرمته أولى فإن قيل‏:‏ فقد نهى عن الاستنجاء باليمين كنهيه ها هنا فلم يمنع ذلك الإجزاء ثم‏,‏ كذا ها هنا قلنا‏:‏ قد بين في الحديث أنهما لا يطهران ثم الفرق بينهما أن النهي هنا لمعنى في شرط الفعل فمنع صحته‏,‏ كالنهي عن الوضوء بالماء النجس وثم لمعنى في آلة الشرط فلم يمنع كالوضوء من إناء محرم‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز الاستنجاء بما له حرمة كشيء كتب فيه فقه أو حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها‏,‏ فهو في الحرمة أعظم من الروث والرمة ولا يجوز بمتصل بحيوان كيده وعقبه وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها وقال بعض أصحابنا يجمع المستجمر به ست خصال أن يكون طاهرا جامدا منقيا غير مطعوم ولا حرمة له ولا متصل بحيوان‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ والحجر الكبير الذي له ثلاث شعب يقوم مقام ثلاثة أحجار وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور وعن أحمد رواية أخرى لا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار وهو قول أبي بكر بن المنذر لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار ولا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار‏)‏ ولأنه إذا استجمر بحجر تنجس فلا يجوز الاستجمار به ثانيا كالصغير ولنا‏:‏ أنه إن استجمر ثلاثا منقية بما وجدت فيه شروط الاستجمار أجزأه كما لو فصله ثلاثة صغارا واستجمر بها‏,‏ إذ لا فرق بين الأصل والفرع إلا فصله ولا أثر لذلك في التطهير والحديث يقتضي ثلاث مسحات بحجر دون عين الأحجار كما يقال ضربته ثلاثة أسواط أي ثلاث ضربات بسوط وذلك لأن معناه معقول ومراده معلوم ولذلك لم نقتصر على لفظه في غير الأحجار‏,‏ بل أجزنا الخشب والخرق والمدر والمعنى من ثلاثة حاصل من ثلاث شعب أو مسحه ذكره في صخرة عظيمة بثلاثة مواضع منها أو في حائط أو أرض فلا معنى للجمود على اللفظ مع وجود ما يساويه من كل وجه وقولهم‏:‏ تنجس قلنا‏:‏ إنما تنجس ما أصاب النجاسة والاستجمار حاصل بغيره‏,‏ فأشبه ما لو تنجس جانبه بغير الاستجمار ولأنه لو استجمر به ثلاثة لحصل لكل واحد منهم مسحة وقام مقام ثلاثة أحجار فكذلك إذا استجمر به الواحد ولو استجمر ثلاثة بثلاثة أحجار لكل حجر منها ثلاث شعب فاستجمر كل واحد منهم من كل حجر بشعبة‏,‏ أجزأهم ويحتمل على قول أبي بكر أن لا يجزئهم‏.‏

فصل‏:‏

ولو استجمر بحجر ثم غسله أو كسر ما تنجس منه واستجمر به ثانيا ثم فعل ذلك واستجمر به ثالثا أجزأه لأنه حجر يجزئ غيره الاستجمار به فأجزأه كغيره ويحتمل على قول أبي بكر أن لا يجزئه محافظة على صورة اللفظ وهو بعيد‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وما عدا المخرج فلا يجزئ فيه إلا الماء وبها قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر يعني إذا تجاوز المحل بما لم تجر به العادة مثل أن ينتشر إلى الصفحتين وامتد في الحشفة لم يجزه إلا الماء لأن الاستجمار في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في غسله لتكرر النجاسة فيه فما لا تتكرر النجاسة فيه لا يجزئ فيه إلا الغسل كساقه وفخذه‏,‏ ولذلك قال علي رضي الله عنه‏:‏ إنكم كنتم تبعرون بعرا وأنتم اليوم تثلطون ثلطا فأتبعوا الماء الأحجار وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏يكفي أحدكم ثلاثة أحجار‏)‏ أراد ما لم يتجاوز محل العادة لما ذكرنا‏.‏

فصل‏:‏

والمرأة البكر كالرجل لأن عذرتها تمنع انتشار البول فأما الثيب فإن خرج البول بحدة فلم ينتشر فكذلك وإن تعدى إلى مخرج الحيض فقال أصحابنا‏:‏ يجب غسله لأن مخرج الحيض والولد غير مخرج البول ويحتمل أن لا يجب لأن هذا عادة في حقها فكفى فيه الاستجمار كالمعتاد في غيرها ولأن الغسل لو لزمها مع اعتياده لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه لكونه مما يحتاج إلى معرفته وإن شك في انتشار الخارج إلى ما يوجب الغسل‏,‏ لم يجب لأن الأصل عدمه والمستحب الغسل احتياطا‏.‏

فصل‏:‏

والأقلف إن كان مرتتقا لا تخرج بشرته من قلفته فهو كالمختتن وإن كان يمكنه كشفها كشفها فإذا بال واستجمر أعادها فإن تنجست بالبول لزمه غسلها كما لو انتشر إلى الحشفة‏.‏

فصل‏:‏

وإن انسد المخرج المعتاد وانفتح آخر لم يجزه الاستجمار فيه لأنه غير السبيل المعتاد وحكي عن بعض أصحابنا أنه يجزئه لأنه صار معتادا ولنا‏,‏ أن هذا نادر بالنسبة إلى سائر الناس فلم تثبت فيه أحكام الفرج فإنه لا ينقض الوضوء مسه ولا يجب بالإيلاج فيه حد ولا مهر ولا غسل‏,‏ ولا غير ذلك من الأحكام فأشبه سائر البدن‏.‏

فصل‏:‏

ظاهر كلام أحمد أن محل الاستجمار بعد الإنقاء طاهر فإن أحمد بن الحسين‏,‏ قال سألت أبا عبد الله عن الرجل يبول فيستبرئ ويستجمر يعرق في سراويله‏؟‏ قال إذا استجمر ثلاثا فلا بأس وسأله رجل فقال إذا استنجيت من الغائط يصيب ذلك الماء موضعا مني آخر‏؟‏ فقال أحمد‏:‏ قد جاء في الاستنجاء ثلاثة أحجار فاستنج أنت بثلاثة أحجار ثم لا تبالي ما أصابك من ذلك الماء قال‏:‏ وسألت أحمد عن رش الماء على الخف إذا لم يستجمر الرجل‏؟‏ قال أحب إلي أن يغسله ثلاثا وهذا قول ابن حامد وظاهر قول المتأخرين من أصحابنا أنه نجس‏,‏ وهو قول الشافعي وأبي حنيفة فلو قعد المستجمر في ماء قليل نجسه ولو عرق كان عرقه نجسا لأنه مسح للنجاسة فلم يطهر به محلها كسائر المسح ووجه الأول قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏لا تستنجوا بروث ولا عظم فإنهما لا يطهران‏)‏ فمفهومه أن غيرهما يطهر ولأن الصحابة رضي الله عنهم‏,‏ كان الغالب عليهم الاستجمار حتى إن جماعة منهم أنكروا الاستنجاء بالماء وسماه بعضهم بدعة وبلادهم حارة‏,‏ والظاهر أنهم لا يسلمون من العرق فلم ينقل عنهم توقي ذلك ولا الاحتراز منه ولا ذكر ذلك أصلا وقد نقل عن ابن عمر‏,‏ أنه بال بالمزدلفة فأدخل يده فنضح فرجه من تحت ثيابه وعن إبراهيم النخعي نحو ذلك ولولا أنهما اعتقدا طهارته ما فعلا ذلك‏.‏

فصل‏:‏

إذا استنجى بالماء لم يحتج إلى تراب قال أحمد يجزئه الماء وحده ولم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه استعمل التراب مع الماء في الاستنجاء ولا أمر به فأما عدد الغسلات فقد اختلف عن أحمد فيها فقال‏,‏ في رواية ابنه صالح أقل ما يجزئه من الماء سبع مرات وقال في رواية محمد بن الحكم‏:‏ ولكن المقعدة يجزئ أن تمسح بثلاثة أحجار أو يغسلها ثلاث مرات ولا يجزئ عندي إذا كان في الجسد أن يغسله ثلاث مرات وذلك لما روت عائشة ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يغسل مقعدته ثلاثا‏)‏ رواه ابن ماجه وقال أبو داود سئل أحمد عن حد الاستنجاء بالماء‏؟‏ فقال ينقي وظاهر هذا أنه لا عدد فيه إنما الواجب الإنقاء‏,‏ وهذا أصح لأنه لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك عدد ولا أمر به ولا بد من الإنقاء على الروايات كلها‏,‏ وهو أن تذهب لزوجة النجاسة وآثارها‏.‏